وقد ورد عن الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) انه قال: "أوليس الله تعالى يقول : ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (*)إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾، فرسول الله عند الله مرتضى ، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي اطلعه الله على ما شاء من غيبه ، فعلمنا ما كان وما يكون الى يوم القيامة ([1]) ، أي ان النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه واله) أخذ العلم من الله وأهل البيت بدورهم اخذوه منه بالوراثة، وعن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام:( "والله لقد اعطينا علم الأولين والأخرين"([2])، إنَّ هذا الحد من العلوم لا يمكن الوصول اليه ولا بلوغه لأيٍ كان الا لهم .
وفي رواية عنه(عليه السلام) ايضاً : "والله إنّي لأعلم ما في السموات واعلم ما في الارض وأعلم ما في الدنيا واعلم ما في الاخرة ...، اني لأعلم ذلك من كتاب الله تعالى إذ يقول : ﴿ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾، يشير الامام الى إنَّ علمهم هذا مستقى من القرآن الكريم ، فكل ما في السماوات وما على الارض وما في الدنيا والاخرة من حساب وعقاب موجود في هذا الكتاب العظيم ، ولكن لا يصل اليه أيٍّ كان ، اذن فإنَّ هذه الروايات تدل على أن علم أهل البيت نابع من مصدرين رئيسيين وهما النبي الاكرم محمد الرسول بالوراثة ، والقرآن الكريم باعتبارهم الثقل الملازم له.([3]
ليس ذلك فحسب بل تدل الروايات الشريفة على اكثر من ذلك ففي رواية عن الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) يقول فيها : " لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزورهم وبين أهل القرآن بقرآنهم" ، فمن فضل الله عليهم أن وهبَّ لهم علم الكتب السماوية الأُخرى زيادة على القرآن الكريم فهم، بهذا العلم لهم أن يثبتوا الحق من الباطل على أهل الديانات الاخرى بالحجة والدليل من كتبهم نفسها ([4[
وهم يتوارثون هذا العلم بعضهم لبعض ، عن ابي عبد الله الصادق ، قال : "إنّ علياً كان عالماً ، وإنّ العلم يتوارث ، ولن يهلك عالم الا بقي من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء الله"، نفهم من الرواية إنَّ الله تعالى لا يتوفى عالم حتى يورث علمه الى من يخلفه ممن يكون أهلاً لذلك العلم لكي لا يموت هذا العلم بموته ، بإشارة الى وراثتهم، هذه العلوم اباً عن جد وهو منتقل فيما بينهم الى القائم المهدي (عج)، فقوله ( من يعلم مثل علمه أو ما شاء الله ) أي إنه أما أن يكون علم اللاحق مشابه لسابقه أو يزيد بمشيئة الله تعالى ، وهذا ما نراه من تطور العلوم المكتسبة من السابقين .
كما دلت النصوص الروائية الشريفة على إنّه لا يكون العلم صحيحاً إلا اذا خرج من عندهم(عليه السلام) ، قال ابو جعفر(عليه السلام) لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة : " شرقا وغربا فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت" ، فلو ذهب من طلب علماً صحيحاً الى شرق الأرض وغربها فأنه لن يناله أبداً ، الا اذا ورِد بابهم وطلبه منهم، فهو يشير بذلك الى إنَّ أي علم كانت نتائجه صحيحة وتم الوصول اليه والافادة منه نابعٌ منهم وليس لغيرهم فضلٌ فيه، فهم مفاتيح الحكمة ، ومعدن العلم ، فكما إنّ الجواهر المخزونة لا يمكن إخراجها من دون المفتاح ، كذلك الحكمة المخزنة لا تظهر ولا تخرج من دون بيانهم([5]) ، وهذا ما اكده الإمام ابي عبد الله (عليه السلام) في مقولته : "ابى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً ، وجعل لكل شرح مفتاحاً ، وجعل لكل مفتاح علماً ، وجعل لكل علم باباً ناطقاً من عرفه عرف الله ، ومن انكره أنكر الله ذلك رسول الله ونحن"([6]
إنَّ جري الاشياء بالأسباب مسألة مهمة في جميع ما خلق الله تعالى فلكل شيء سبب الى أن ينتهي لمن لا سبب له – أي الله تعالى – وجعل لهذا السبب شرحاً وهي حدوده وكيفياته وشروطه ولهذا الشرح علماً يختص به ، وجعل لهذا العلم من ينطق به وباباً يلج منه من اراد هذا العلم اليه([7]) ،فما قصده بـ (الباب) هو الذي به يتوصل الى هذا العلم وهو رسول الله والأئمة.
وفي رواية عن الامام علي يبين فيها علمه إذ يقول : " بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لأضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة" ، فلو كشف هذا العلم لسامعيه لاهتزوا واضطربوا لعدم تحملهم عجائب ما فيه ، وهو محفوظ عند أهل البيت لا يبوحون به إلا لخواصهم الموثوقين ممن امتحن الله قلبه للأيمان ([8]
وقد شهد لهم الأصحاب والعلماء وكل من عرف فضلهم ، فعن ابن عباس : "علي عَلِمَ علماً علَّمَهُ رسولُ الله ، ورسولُ الله علَّمه الله ، فعلم النبي الاكرم(صلى الله عليه واله)، من علم الله، وعلم علي(عليه السلام) من علم النبي وعلمي من علم علي، وما علمي وعلم اصحاب محمد في علم علي، إلا كقطرة في سبعة ابحر !" ([9]
ونجد الخليل بن أحمد الفراهيدي يقول عن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب حين سُئل ما تقول في علي بن ابي طالب ؟ فقال : ما اقول في حق امرئ كتم مناقبه أولياؤه خوفاً ، واعداؤه حسداً ، ثم ظهر من بين الكتمان ما ملأ الخافقين ، وقيل له أيضاً : ما الدليل على إنَّ علياً إمام الكل في الكل ؟ قال : احتياج الكل اليه ، واستغناؤه عن الكل ([10]
ومن ذلك يتبين إنّ حقيقة علم أهل البيت(عليه السلام)، إذ انه علم حضوري شهودي، وليس من سنخ العلوم الحصولية التي تحصل من خلال الألفاظ والمفاهيم ، ومما يؤكد ذلك وصفهم، بأنهم خزنة علم الله ، وإنهم يعلمون بما في الارض والسماء ، وإنهم ورثة علم النبي الاكرم ، وإنّهم يعلمون كل شيء وغير ذلك من الروايات الدالة على سعة علمهم.
يبين صدر الدين الشيرازي ملامح علمهم إذ يقول : "إنّ العلم الحصولي الكسبي علم بظواهر الأشياء وجزيئاتها من طريق نفس الاشياء بتغير لا يفيد اليقين . وهذا النحو من العلم يتنزه عنه الأولياء فضلاً عن آل محمد، وإنّ العلم الشهودي الحضوري علم بواقع الأشياء واسبابها – والذي يغني عن العلم بجزيئاتها- هو علم الأولياء فضلاً عن اولي الأمر من آل محمد وآثار هذا العلم إضافة الى إنّها شهودية لعين الواقع وصقع الأمر ، إنّه يؤهل العلم به أن يطلع على أسرار الكون والملكوت ، ويعطيه الأهلية لقدرة التصرف فيه ، منتظراً منح القدرة من الله العزيز المتعال([11[
وقد اشار الى ذلك الفيض الكاشاني بقوله : " وليعلم إنّ علوم الائمة ليست اجتهادية ولا سمعية اخذوها من جهة الحواسّ ، بل لدنية اخذوها من الله سبحانه ببركة متابعة النبي ([12[
إعداد: جعفر رمضان
[1] المجلسي : بحار الانوار ، 64/281؛ الطباطبائي : الميزان ، 20/59.
[2] المجلسي : بحار الانوار ، 26/28، وابن شهر آشوب : مناقب آل ابي طالب ، 3/374.
[3] ابن شهر آشوب : مناقب آل ابي طالب، 3/374، محمد الصفار:بصائر الدرجات، 148.
[4]المجلسي : بحار الانوار ، 35/392، وابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ، 12/197، تفسير العياشي ، 1/15.
[5] محمد الصفار : البصائر ، 138
[6] الكليني : الكافي ، 1/399، الصفار : بصائر الدرجات ، 30، المجلسي : بحار الانوار ، 2/92.
[7] محمد الصفار : بصائر الدرجات ، 26.
[8] المازندراني : شرح أصول الكافي ، 5/ 139-140 .
[9] الكليني : الكافي ، 7/424، الشريف الرضي : خصائص الائمة ، 85.
[10] القمي : سفينة البحار،مادة خلل، 2/ 721 .
[11] الشيرازي : شرح اصول الكافي ، 2/
[12] الفيض الكاشاني : الاصول الاصلية ، 30.