مثلت الثورة الحسينية نقطة تحوّل عظمى في تاريخ الأمة الإسلامية وصارت رمزاً للثورات التي تلتها ضد الظلم والطغيان، فقد حملت هذه الثورة من الخصائص والقيم الإنسانية والفكرية ما أحدث وعياً جماهيرياً عارماً لا يطفأ ناره ولا يخمد أواره، وعلى إثرها انكشفت حقيقة الجاهلية الأموية التي لبست ثوب الإسلام وتوالت الثورات العلوية وغيرها حتى انتهت بإسقاط الحكم الأموي.
ومن أبرز الثورات التي قامت بعد ثورة الإمام الحسين (ع) هي ثورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) التي نسفت حواجز الخوف في نفوس الأمة وجعلتهم على مستوى من الوعي السياسي والفكري والجهادي، فالأوضاع السياسية التي سبقت الثورة كانت كلها تشير أو تنذر باندلاع ثورة عظيمة ضد السلطة الأموية التي مارست أشد الممارسات القمعية ضد المسلمين وشنت الحملات الإرهابية ضدهم فضلا عن تفشي الظلم والفساد في المجتمع الإسلامي وإعلان الأمويين الكفر الصريح بالإسلام ومحاربتهم الخط الرسالي الصحيح المتمثل بأهل البيت (ع) حتى وصل الأمر أن دخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك فسمع زيد رجلاً من جلساء هشام وهو يسبّ النبي (ص) فنهره زيد. فقال هشام: مهلا يا زيد لا تؤذي جليسنا !!
على مائدة أهل البيت
ولد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) في المدينة المنورة في كنف العلم وبيت الهداية ومجمع الفضائل ومنبع الوحي وصرح الإباء والشرف، وقد اختلف المؤرخون في سنة ولادته فقيل سنة (66هـ) وقيل (67هـ) وقيل (75هـ) وقيل (78هـ) وقيل (80هـ) ويمكن اعتماد القول الأخير وهو سنة (80هـ) بقرينة أن عمره الشريف يوم استشهاده باتفاق المصادر كان (42 سنة) وكانت سنة استشهاده (122هـ)
عاش زيد مع أبيه الإمام زين العابدين علي بن الحسين خمسة عشر عاماً فأخذ منه معالم الإمامة والقيادة قبل فيض الأبوة ولما استشهد الإمام زين العابدين كفل زيداً أخوه الإمام محمد الباقر فغذاه بالعلم والتقوى فتوفرت لزيد مائدة أهل البيت السخية وفتح عينيه على ينابيع العلم والقيم والأخلاق الرفيعة فنشأ عالماً بليغاً شجاعاً كريماً فكان مثلاً أعلى للشخصية الإسلامية الملتزمة التي جمعت العلم إلى جانب العبادة والخشوع لله عز وجل، وكيف لا وهو ابن زين العابدين فكمل بناؤه الفكري والأخلاقي على يدي أبيه وأخيه (عليهما السلام) واستمدت ملامحه الشخصية منهما فسار على خطهما الرسالي المحمدي معترفاً بإمامة أخيه محمد الباقر (ع).
أما أمه فهي جارية يقال لها حواء أهداها المختار بن أبي عبيدة الثقفي إلى الإمام زين العابدين (ع) وقد روي أن الإمام زين العابدين كان يصلي صلاة الفجر عندما بُشّرَ بزيد ففتح المصحف الشريف ونظر فيه فإذا في أول الصفحة: (فضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً)، ثم أطبقه وفتحه ثانية فنظر فإذا في أول الورقة: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم). فقال (ع) هو والله زيد هو والله زيد.
توفرت لزيد كثير من المؤهلات التي لم تتوفر لكثير من الناس فقد اقتدى بآبائه الطاهرين في أخلاقهم وشمائلهم فكان كثير العبادة حتى لقب بـ (حليف القرآن) لكثرة قراءته له، و(اسطوانة المسجد) لكثرة صلاته، ويحدثنا زيد عن نفسه فيقول: (والذي يعلم ما تحت وريد زيد بن علي أن زيد بن علي لم يهتك لله محرماً منذ عرف يمينه من شماله من أطاع الله أطاعه ما خَلق) ويقول أيضاً: (خلوت بالقرآن ثلاث عشرة سنة أقرأه وأتدبره)، ويقول عنه ابنه يحيى بن زيد: (رحم الله أبي زيداً كان والله أحد المتعبدين قائم ليله صائم نهاره يجاهد في الله حق جهاده).
منطلقات الثورة
كان الحكام الأمويون يعيثون في الأرض فساداً فكانوا يعملون على تعطيل حدود الله وإسقاط السنن النبوية الشريفة والرجوع إلى الجاهلية ولا يمكن وصف الأوضاع المزرية في عهد الأمويين والتي أدت إلى ثورة زيد ولكن يمكن معرفة الدوافع الرئيسية لهذه الثورة من كلام زيد عندما قام بثورته حيث قال: (إني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه وإحياء السنن وإماتتة البدع فإن تسمعوا يكن خيرا لكم ولي وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل).
فالظلم والفساد وإحياء البدع والفتن والتناحر قد بلغ ذروته في عهد هشام بن عبد الملك وظلت الأمة تعاني من هذه الأوضاع الشاذة فضلا عن أن الناس لم ينسوا ما فعل الأمويون من الجرائم البشعة التي شكلت دوافع لخروج زيد حين أعلن قوله: (وإنما خرجت على بني أمية لأنهم قتلوا جدي الحسين (ع) وأغاروا على المدينة يوم الحرة ثم رموا بيت الله بالمنجنيق والنار). وهناك أسباب ودوافع أخرى للثورة منها المؤامرة القذرة التي حاك خيوطها يوسف بن عمر الثقفي والي العراق من قبل هشام الذي ادعى أن خالد بن عبد الله القسري الوالي السابق كان قد أعطى زيداً ستمائة ألف درهم وكتب بذلك إلى هشام وكان يوسف هذا قد اشتهر بولائه الشديد للأمويين بقدر بغضه الشديد للعلويين.
وظل يوسف يحيك المؤامرات تلو المؤامرات على زيد حتى أرسل هشام يطلب زيداً منه فلما دخل عليه قال هشام: (أنت المؤهل نفسك للخلافة الراجي لها وما أنت وما ذاك لا أم لك وإنما أنت ابن أمة). فقال له زيد: (إني لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند الله من نبي بعثه وهو ابن أمة فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية لم يبعث وهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل، فالنبوة أعظم منزلة عند الله من الخلافة يا هشام، وبعد فما يقصر برجل أبوه رسول الله (ص) وهو ابن علي بن أبي طالب (ع). فوثب هشام من مجلسه وقال: (لا يبيتن هذا في عسكري فخرج زيد وهو يقول: (إنه لم يكره قوم قط حر السيوف إلا ذلوا) وسُمِعَ يقول: (فوالله لو لم يكن إلا أنا ويحيى ابني لخرجت عليه ــ أي هشام ــ وجاهدته حتى أفنى).
الكوفة مرة أخرى
لقد اختار زيد الكوفة منطلقاً لثورته فهي المدينة الوحيدة التي زخر تاريخها السياسي بمواجهة النظام الأموي وهي قاعدة المعارضة الشيعية الدائمة للشام، وفي الواقع فإنها ظلت المركز الذي تأوي إليه قيادات المعارضة للحكم الأموي حتى نجحت أخيراً في إسقاطه، وفي ضوء هذا الموقع الذي أخذته الكوفة نرى أن زيداً كان موفّقاً في اختياره لإعلان الثورة، كما يعكس هذا الاختيار مقدار وعي زيد في دور الكوفة وقدرتها على إشعال الثورة.
وأقبل الشيعة يختلفون إليه ويبايعونه حتى أحصي ديوانه فكان خمسة عشر ألف رجل سوى أهل المدائن والبصرة وواسط والموصل وخراسان والري وجرجان والجزيرة، وقيل إن عدد المبايعين بلغ أربعين ألفاً وقد بايعه كبار فقهاء أهل السنة فضلاً عن الشيعة وكان أبو حنيفة يفتي سراً بالجهاد معه ودعم الثورة بالمال والخروج معه
وقال الإمام الصادق (ع) عندما سألوه عن مبايعته: بايعوه. وقد أعد زيد لمعركة الحق ضد الباطل ما استطاع وواجه الأمويين بقلب شجاع وبصيرة نافذة يقول واصفوه إنه إذا تقدم للميدان فهو يشبه جده أمير المؤمنين يقلب ويفرق الصفوف وأهل الشام يفرون منه فقاتل قتالا شديدا وهو يقول:
أذل الحياة وعز الممات *** وكلا أراه طعــــــــــــاماً وبيلا
فإن كان لا بد من واحد *** فسيري إلى الموت سيراً جميلا
وقال أيضا:
السيف يعرف عزمي عند هزته *** والرمح بي خبر، والله لي أزر
إنا لنأمل ما كـــــــــــانت أوائلنا *** من قبل تأمـــله إن ساعد القدر
الملحمة البطولية
خرج زيد في غير الوقت الذي عينه مع أصحابه بعد أن انكشف أمره عن طريق الجواسيس المندسين في صفوفه، فقام والي الكوفة بعدة إجراءات لوأد الثورة قبل قيامها، فجمع أهل الكوفة في المسجد ومنعهم من الخروج لشؤونهم حتى إلقاء القبض على زيد وقتله، لذلك قرر زيد الخروج قبل الوقت المحدد فدعا أتباعه إلى الخروج في ليلة شديدة البرد وكانت ليلة الأربعاء فلم يجب دعوته سوى مائتين وخمسة عشر رجلا فخرجوا وهم يوقدون النيران في المشاعل إيذانا بإعلان الثورة تحت شعار (يا منصور أمت)، وواجه زيد بهذه القلة جيشاً منظماً تعداده خمسة عشر ألف مقاتل لكنه لم يتراجع ولم يهن وصمم على القتال فحاول السيطرة على الكوفة وفك الحصار عن أصحابه المحبوسين في المسجد لكنه لم يستطع لكثرة الجيش الأموي ولإحكام الحصار على المسجد وقلة أنصاره فكان جند الوالي يرمون زيداً وأصحابه بالسهام من فوق أسوار المسجد فانسحب وقرر مقاتلة جند الشام بهذه القلة فاصطدم بقوة منهم قوامها خمسمائة رجل فهزمهما بعد أن قتل هو وأصحابه الكثير منهم وروي أنه قتل وحده منها سبعين رجلاً وكانت الامدادات تتوالى من الشام إلى الكوفة للقضاء على زيد وثورته فاصطدم بقوة أخرى في الكناسة وهزمهم أيضاً، وانتهى أول يوم للثورة بانتصار ساحق لزيد وفي الليل التحق به بعض أنصاره الذين استطاعوا فك الحصار بعد أن ترددت أخبار انتصاراته التي بثت الرعب في قلوب جند الشام.
الشهادة
وفي اليوم التالي عبأ يوسف بن عمر جيش الشام بعد أن جاءته تعزيزات وإمدادات فاصطدم بزيد وقد قل أصحابه وبقي معه القلة القليلة من المخلصين وفي هذا اليوم ــ الخميس ــ فقد زيد واحداً من أكفأ أصحابه وأشجعهم وهو نصر بن معاوية الذي ضرب المثل الأعلى في الصبر والعزيمة والثبات والشجاعة وقد قال لزيد عند خروجه: (إنما علي أن أضرب بسيفي حتى أموت). وكان هذا الرجل يمثل الذراع الأيمن لزيد وكثر القتل في أصحابه فبان النقص فيهم ثم قُتل معاوية بن إسحاق والذي كان بمنزلة نصر في الشجاعة والإخلاص ثم ضُرب زيد بسهم في جبهته فبلغ دماغه فسقط وحمله من بقي من أصحابه وطلبوا طبيباً لانتزاع السهم فقال له الطبيب: إنك إن نزعته مت الآن. فقال زيد الموت أهون عليَّ مما أنا فيه. فسحب الطبيب كلبتي السهم فانتزعه ففاضت روحه الطاهرة إلى بارئها.
حفر له أصحابه قبراً وسط ساقية ودفنوه فيه وردموها ووضعوا عليها النبات وكان في تلك المنطقة عبداً سندياً كان يراقبهم وهم لا يعلمون بوجوده، فلما انتهوا وتفرقوا أسرع العبد وأخبر يوسف بن عمر الذي استخرجه وقطع رأسه وأرسله إلى هشام فأرسله هشام إلى المدينة فعلق عند قبر رسول الله (ص) ثم أرسل إلى مصر حيث طيف به هناك، أما الجسد الطاهر فقد صلبه يوسف بن عمر وبقي مصلوباً حتى كتب هشام إلى يوسف بإحراقه ونسفه ففعل.
زيد عند أهل البيت
لقد كانت ثورة زيد رغم نهايتها المأساوية المؤلمة بمثابة الصاعقة التي أحرقت الحكم الأموي ودفعته إلى الهاوية وقرعت حكامه بفحوى: لا مكان في الإسلام للطغاة
لقد مضى زيد شهيداً راضياً مرضياً عند أئمة أهل البيت (ع) فعندما سمع الإمام الصادق (ع) بخبر استشهاده بكى ثم قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون .. عند الله احتسب عمي شهيداً كشهداء استشهدوا مع رسول الله وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم)
وقال أيضا: (ما مضى والله زيد وأصحابه إلا شهداء مثل ما مضى عليه علي بن أبي طالب وأصحابه)
وتتجلى مكانة زيد السامية عند الله تعالى وأهل البيت في قول الإمام الصادق: (رحمه الله، أما أنه كان مؤمناً، وكان عارفاً، وكان عالماً، وكان صدوقاً، أما أنه لو ظفر لوفى، أما إنه لو ملك لعرف كيف يضعها)
وهناك أقوال أخرى له (ع) في حق زيد جاءت بنفس المضمون
وهناك شهادة أخرى من إمام معصوم وهو الإمام علي بن موسى الرضا (ع) حيث قال في حقه: (كان عمي زيد من علماء آل محمد غضب لله عز وجل فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله ولم يدع ما ليس له بحق وإنه كان أتقى من ذاك إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد) ثم روى عن أبيه عن جده الصادق قوله: (ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه).
ومن أبرز الثورات التي قامت بعد ثورة الإمام الحسين (ع) هي ثورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) التي نسفت حواجز الخوف في نفوس الأمة وجعلتهم على مستوى من الوعي السياسي والفكري والجهادي، فالأوضاع السياسية التي سبقت الثورة كانت كلها تشير أو تنذر باندلاع ثورة عظيمة ضد السلطة الأموية التي مارست أشد الممارسات القمعية ضد المسلمين وشنت الحملات الإرهابية ضدهم فضلا عن تفشي الظلم والفساد في المجتمع الإسلامي وإعلان الأمويين الكفر الصريح بالإسلام ومحاربتهم الخط الرسالي الصحيح المتمثل بأهل البيت (ع) حتى وصل الأمر أن دخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك فسمع زيد رجلاً من جلساء هشام وهو يسبّ النبي (ص) فنهره زيد. فقال هشام: مهلا يا زيد لا تؤذي جليسنا !!
على مائدة أهل البيت
ولد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) في المدينة المنورة في كنف العلم وبيت الهداية ومجمع الفضائل ومنبع الوحي وصرح الإباء والشرف، وقد اختلف المؤرخون في سنة ولادته فقيل سنة (66هـ) وقيل (67هـ) وقيل (75هـ) وقيل (78هـ) وقيل (80هـ) ويمكن اعتماد القول الأخير وهو سنة (80هـ) بقرينة أن عمره الشريف يوم استشهاده باتفاق المصادر كان (42 سنة) وكانت سنة استشهاده (122هـ)
عاش زيد مع أبيه الإمام زين العابدين علي بن الحسين خمسة عشر عاماً فأخذ منه معالم الإمامة والقيادة قبل فيض الأبوة ولما استشهد الإمام زين العابدين كفل زيداً أخوه الإمام محمد الباقر فغذاه بالعلم والتقوى فتوفرت لزيد مائدة أهل البيت السخية وفتح عينيه على ينابيع العلم والقيم والأخلاق الرفيعة فنشأ عالماً بليغاً شجاعاً كريماً فكان مثلاً أعلى للشخصية الإسلامية الملتزمة التي جمعت العلم إلى جانب العبادة والخشوع لله عز وجل، وكيف لا وهو ابن زين العابدين فكمل بناؤه الفكري والأخلاقي على يدي أبيه وأخيه (عليهما السلام) واستمدت ملامحه الشخصية منهما فسار على خطهما الرسالي المحمدي معترفاً بإمامة أخيه محمد الباقر (ع).
أما أمه فهي جارية يقال لها حواء أهداها المختار بن أبي عبيدة الثقفي إلى الإمام زين العابدين (ع) وقد روي أن الإمام زين العابدين كان يصلي صلاة الفجر عندما بُشّرَ بزيد ففتح المصحف الشريف ونظر فيه فإذا في أول الصفحة: (فضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً)، ثم أطبقه وفتحه ثانية فنظر فإذا في أول الورقة: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم). فقال (ع) هو والله زيد هو والله زيد.
توفرت لزيد كثير من المؤهلات التي لم تتوفر لكثير من الناس فقد اقتدى بآبائه الطاهرين في أخلاقهم وشمائلهم فكان كثير العبادة حتى لقب بـ (حليف القرآن) لكثرة قراءته له، و(اسطوانة المسجد) لكثرة صلاته، ويحدثنا زيد عن نفسه فيقول: (والذي يعلم ما تحت وريد زيد بن علي أن زيد بن علي لم يهتك لله محرماً منذ عرف يمينه من شماله من أطاع الله أطاعه ما خَلق) ويقول أيضاً: (خلوت بالقرآن ثلاث عشرة سنة أقرأه وأتدبره)، ويقول عنه ابنه يحيى بن زيد: (رحم الله أبي زيداً كان والله أحد المتعبدين قائم ليله صائم نهاره يجاهد في الله حق جهاده).
منطلقات الثورة
كان الحكام الأمويون يعيثون في الأرض فساداً فكانوا يعملون على تعطيل حدود الله وإسقاط السنن النبوية الشريفة والرجوع إلى الجاهلية ولا يمكن وصف الأوضاع المزرية في عهد الأمويين والتي أدت إلى ثورة زيد ولكن يمكن معرفة الدوافع الرئيسية لهذه الثورة من كلام زيد عندما قام بثورته حيث قال: (إني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه وإحياء السنن وإماتتة البدع فإن تسمعوا يكن خيرا لكم ولي وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل).
فالظلم والفساد وإحياء البدع والفتن والتناحر قد بلغ ذروته في عهد هشام بن عبد الملك وظلت الأمة تعاني من هذه الأوضاع الشاذة فضلا عن أن الناس لم ينسوا ما فعل الأمويون من الجرائم البشعة التي شكلت دوافع لخروج زيد حين أعلن قوله: (وإنما خرجت على بني أمية لأنهم قتلوا جدي الحسين (ع) وأغاروا على المدينة يوم الحرة ثم رموا بيت الله بالمنجنيق والنار). وهناك أسباب ودوافع أخرى للثورة منها المؤامرة القذرة التي حاك خيوطها يوسف بن عمر الثقفي والي العراق من قبل هشام الذي ادعى أن خالد بن عبد الله القسري الوالي السابق كان قد أعطى زيداً ستمائة ألف درهم وكتب بذلك إلى هشام وكان يوسف هذا قد اشتهر بولائه الشديد للأمويين بقدر بغضه الشديد للعلويين.
وظل يوسف يحيك المؤامرات تلو المؤامرات على زيد حتى أرسل هشام يطلب زيداً منه فلما دخل عليه قال هشام: (أنت المؤهل نفسك للخلافة الراجي لها وما أنت وما ذاك لا أم لك وإنما أنت ابن أمة). فقال له زيد: (إني لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند الله من نبي بعثه وهو ابن أمة فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية لم يبعث وهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل، فالنبوة أعظم منزلة عند الله من الخلافة يا هشام، وبعد فما يقصر برجل أبوه رسول الله (ص) وهو ابن علي بن أبي طالب (ع). فوثب هشام من مجلسه وقال: (لا يبيتن هذا في عسكري فخرج زيد وهو يقول: (إنه لم يكره قوم قط حر السيوف إلا ذلوا) وسُمِعَ يقول: (فوالله لو لم يكن إلا أنا ويحيى ابني لخرجت عليه ــ أي هشام ــ وجاهدته حتى أفنى).
الكوفة مرة أخرى
لقد اختار زيد الكوفة منطلقاً لثورته فهي المدينة الوحيدة التي زخر تاريخها السياسي بمواجهة النظام الأموي وهي قاعدة المعارضة الشيعية الدائمة للشام، وفي الواقع فإنها ظلت المركز الذي تأوي إليه قيادات المعارضة للحكم الأموي حتى نجحت أخيراً في إسقاطه، وفي ضوء هذا الموقع الذي أخذته الكوفة نرى أن زيداً كان موفّقاً في اختياره لإعلان الثورة، كما يعكس هذا الاختيار مقدار وعي زيد في دور الكوفة وقدرتها على إشعال الثورة.
وأقبل الشيعة يختلفون إليه ويبايعونه حتى أحصي ديوانه فكان خمسة عشر ألف رجل سوى أهل المدائن والبصرة وواسط والموصل وخراسان والري وجرجان والجزيرة، وقيل إن عدد المبايعين بلغ أربعين ألفاً وقد بايعه كبار فقهاء أهل السنة فضلاً عن الشيعة وكان أبو حنيفة يفتي سراً بالجهاد معه ودعم الثورة بالمال والخروج معه
وقال الإمام الصادق (ع) عندما سألوه عن مبايعته: بايعوه. وقد أعد زيد لمعركة الحق ضد الباطل ما استطاع وواجه الأمويين بقلب شجاع وبصيرة نافذة يقول واصفوه إنه إذا تقدم للميدان فهو يشبه جده أمير المؤمنين يقلب ويفرق الصفوف وأهل الشام يفرون منه فقاتل قتالا شديدا وهو يقول:
أذل الحياة وعز الممات *** وكلا أراه طعــــــــــــاماً وبيلا
فإن كان لا بد من واحد *** فسيري إلى الموت سيراً جميلا
وقال أيضا:
السيف يعرف عزمي عند هزته *** والرمح بي خبر، والله لي أزر
إنا لنأمل ما كـــــــــــانت أوائلنا *** من قبل تأمـــله إن ساعد القدر
الملحمة البطولية
خرج زيد في غير الوقت الذي عينه مع أصحابه بعد أن انكشف أمره عن طريق الجواسيس المندسين في صفوفه، فقام والي الكوفة بعدة إجراءات لوأد الثورة قبل قيامها، فجمع أهل الكوفة في المسجد ومنعهم من الخروج لشؤونهم حتى إلقاء القبض على زيد وقتله، لذلك قرر زيد الخروج قبل الوقت المحدد فدعا أتباعه إلى الخروج في ليلة شديدة البرد وكانت ليلة الأربعاء فلم يجب دعوته سوى مائتين وخمسة عشر رجلا فخرجوا وهم يوقدون النيران في المشاعل إيذانا بإعلان الثورة تحت شعار (يا منصور أمت)، وواجه زيد بهذه القلة جيشاً منظماً تعداده خمسة عشر ألف مقاتل لكنه لم يتراجع ولم يهن وصمم على القتال فحاول السيطرة على الكوفة وفك الحصار عن أصحابه المحبوسين في المسجد لكنه لم يستطع لكثرة الجيش الأموي ولإحكام الحصار على المسجد وقلة أنصاره فكان جند الوالي يرمون زيداً وأصحابه بالسهام من فوق أسوار المسجد فانسحب وقرر مقاتلة جند الشام بهذه القلة فاصطدم بقوة منهم قوامها خمسمائة رجل فهزمهما بعد أن قتل هو وأصحابه الكثير منهم وروي أنه قتل وحده منها سبعين رجلاً وكانت الامدادات تتوالى من الشام إلى الكوفة للقضاء على زيد وثورته فاصطدم بقوة أخرى في الكناسة وهزمهم أيضاً، وانتهى أول يوم للثورة بانتصار ساحق لزيد وفي الليل التحق به بعض أنصاره الذين استطاعوا فك الحصار بعد أن ترددت أخبار انتصاراته التي بثت الرعب في قلوب جند الشام.
الشهادة
وفي اليوم التالي عبأ يوسف بن عمر جيش الشام بعد أن جاءته تعزيزات وإمدادات فاصطدم بزيد وقد قل أصحابه وبقي معه القلة القليلة من المخلصين وفي هذا اليوم ــ الخميس ــ فقد زيد واحداً من أكفأ أصحابه وأشجعهم وهو نصر بن معاوية الذي ضرب المثل الأعلى في الصبر والعزيمة والثبات والشجاعة وقد قال لزيد عند خروجه: (إنما علي أن أضرب بسيفي حتى أموت). وكان هذا الرجل يمثل الذراع الأيمن لزيد وكثر القتل في أصحابه فبان النقص فيهم ثم قُتل معاوية بن إسحاق والذي كان بمنزلة نصر في الشجاعة والإخلاص ثم ضُرب زيد بسهم في جبهته فبلغ دماغه فسقط وحمله من بقي من أصحابه وطلبوا طبيباً لانتزاع السهم فقال له الطبيب: إنك إن نزعته مت الآن. فقال زيد الموت أهون عليَّ مما أنا فيه. فسحب الطبيب كلبتي السهم فانتزعه ففاضت روحه الطاهرة إلى بارئها.
حفر له أصحابه قبراً وسط ساقية ودفنوه فيه وردموها ووضعوا عليها النبات وكان في تلك المنطقة عبداً سندياً كان يراقبهم وهم لا يعلمون بوجوده، فلما انتهوا وتفرقوا أسرع العبد وأخبر يوسف بن عمر الذي استخرجه وقطع رأسه وأرسله إلى هشام فأرسله هشام إلى المدينة فعلق عند قبر رسول الله (ص) ثم أرسل إلى مصر حيث طيف به هناك، أما الجسد الطاهر فقد صلبه يوسف بن عمر وبقي مصلوباً حتى كتب هشام إلى يوسف بإحراقه ونسفه ففعل.
زيد عند أهل البيت
لقد كانت ثورة زيد رغم نهايتها المأساوية المؤلمة بمثابة الصاعقة التي أحرقت الحكم الأموي ودفعته إلى الهاوية وقرعت حكامه بفحوى: لا مكان في الإسلام للطغاة
لقد مضى زيد شهيداً راضياً مرضياً عند أئمة أهل البيت (ع) فعندما سمع الإمام الصادق (ع) بخبر استشهاده بكى ثم قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون .. عند الله احتسب عمي شهيداً كشهداء استشهدوا مع رسول الله وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم)
وقال أيضا: (ما مضى والله زيد وأصحابه إلا شهداء مثل ما مضى عليه علي بن أبي طالب وأصحابه)
وتتجلى مكانة زيد السامية عند الله تعالى وأهل البيت في قول الإمام الصادق: (رحمه الله، أما أنه كان مؤمناً، وكان عارفاً، وكان عالماً، وكان صدوقاً، أما أنه لو ظفر لوفى، أما إنه لو ملك لعرف كيف يضعها)
وهناك أقوال أخرى له (ع) في حق زيد جاءت بنفس المضمون
وهناك شهادة أخرى من إمام معصوم وهو الإمام علي بن موسى الرضا (ع) حيث قال في حقه: (كان عمي زيد من علماء آل محمد غضب لله عز وجل فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله ولم يدع ما ليس له بحق وإنه كان أتقى من ذاك إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد) ثم روى عن أبيه عن جده الصادق قوله: (ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه).