من هذه الاسرة التي اغناها الله بفضله والقائمة في قلوب المسلمين وعواطفهم تفرّع عملاق هذه الامة ومؤسس نهضتها الفكرية والعلمية الإمام جعفر الصادق(ع)، وقد ورث من عظماء اسرته جميع خصالهم العظيمة فكان نبراسا ونجما لامعا في سماء البشرية. ولقد فجر(ع) ينابيع العلم والحكمة في الارض وساهم مساهمة ايجابية في تطوير العقل البشري وذلك بما نشره من مختلف العلوم. ولد الامام(ع) في مرحلة الحكم الاموي حين ابتعد الخلفاء كثيرا عن طريق الحق وترسخت صيغة الملك المتوارث. وعاصر الامام جعفر الصادق(ع) جدّه الامام علي بن الحسين زين العابدين اثنتا عشرة سنة. نهل خلالها جميع العلوم والمعارف من ابيه الامام محمد الباقر(ع) وفاق الجميع بسعة ادراكه وشدّة ذكائه.
وشارك اباه محنة الصبر على تولي الظالمين والتعرض للبلاء كما ساهم مع ابيه في نشر العلوم الاسلامية من خلال حلقات الدرس التي أسسها لكي لا تضيع الرسالة وتندرس معالم الدين. وتمكن من ان يواصل بعد ابيه(ع) خلال مدة امامته التي استمرت اربعا وثلاثين سنة تربية اجيال عديدة من العلماء والفقهاء الصالحين ممن ينتهج بنهج أهل البيت(ع). كما عاصر الامام الصادق(ع) مرحلة انحطاط الدولة الاموية واُفولها عاصر كذلك ظهور الدولة العباسية التي تعجلت في ممارسة الظلم بالنسبة لاهل البيت عليهم السلام والتعدّي عليهم.
وتمكن الامام الصادق(ع) في هذه الفترة من المعترك السياسي المرير ان يحافظ علی كيان المذهب الشيعي وسلامة الجماعة الصالحة وتنميتها، تلك الجماعة التي عمل على بنائها وتوسعتها آباوه الطاهرين.
ويمكن تقسيم حياته(ع) الى عصرين متميزين:
الاول- عصر ماقبل التصدي للامامة وقد عاصر فيه كلا من الوليد بن عبدالملك وسليمان بن عبدالملك وعمر بن عبدالعزيز ويزيد بن الوليد وهشام بن عبدالملك وينقسم الى مرحلتين المرحلة الاولى حياته مع جدّه وأبيه عليهما السلام (83-95هـ). المرحلة الثانية حياته مع ابيه الباقر(ع) (95-114هـ.)
الثاني- عصر امامته(ع) وينقسم الى مرحلتين ايضا، المرحلة الاولى فترة انهيار الدولة الاموية حتى اُفولها (114-132هـ)، والمرحلة الثانية فترة تأسيس الدولة العباسية حتى استشهاده(ع) (132-148هـ). وعاصر في المرحلة الاولى كلا من هشام بن عبدالملك والوليد بن عبدالملك ويزيد بن الوليد المعروف بالناقص ثم اخيه ابراهيم بن الوليد ثم مروان بن محمد المعروف بـ(مروان الحمار) آخر ملوك الدولة الاموية التي عاثت في الارض فسادا. كما عاصر في الثانية منها كلا من السفاح وابي جعفر المنصور واستشهد في حكم المنصور العباسي بعد اجراءات قاسية قام بها هذا الحاكم الذي تربع على كرسي الخلافة باسم أهل البيت عليهم السلام.
وهکذا عاش الامام الصادق(ع) هذه الاجواء السياسية المضطربة في جو مشحون بالعداء والارهاب والتجسس والملاحقة إلا انه استطاع بحکمته وقوة عزيمته ان يؤدي رسالته وان يفجر ينابيع العلم والمعرفة ويخرج جيلا من العلماء والفقهاء والمتکلمين.
والذي يتابع منهج الامام(ع)، ومهمته العلمية يکتشف ان الامام کان يستهدف بعمله ومدرسته الاهداف الاتيه:
اولا - حماية العقيدة من التيارات العقائدية والفلسفية الالحادية والمقولات الضالة، کالزنادقة والغلو والتاويلات الاعتقادية التي لاتنسجم وعقيدة التوحيد .
وقد جاهد الامام الصادق(ص) وناضل من اجل الدفاع عن عقيدة التوحيد ضد الملاحدة والزنادقة، کما جاهد ضد الغلاة الذين حاولوا ان يتستروا تحت اسم اهل البيت عليهم السلام ويخلعوا عليهم صفات الربوبية والالوهية.
وقد برأ الامام(ع) من هؤلاء الخارجين علی عقيدة التوحيد کما برأ آباؤه عليهم السلام من قبل.
ثانيا- نشر الاسلام وتوسيع دائرة الفقه والتشريع وتثبيت معالمها، وحفظ اصالتها إذ لم يرو عن احد الحديث ولم يؤخذ عن إمام من الفقه والاحکام ما اخد عن الامام جعفر بن محمد الصادق(ع(
بعد هذا العمر المليء بالعلم والعمل والسعي والجهاد والفضل والتقوی، دس اليه السم في زمن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور الدوانيقي، فاستشهد الامام الصادق(ع) مسموماً في الخامس والعشرين من شوال 148 هـ، وکانت شهادته(ع) بالمدينة المنورة، منيرا للامة طريق سعادة الدارين، رافعا للاجيال راية الکفاح من اجل الحفاظ علی شريعة الله تعالی، ومقاومة کل ضلال وانحراف او بدعة او هوی. ودفن في مقبرة البقيع مع ابيه وجده وجدته فاطمة الزهراء عليها السلام وعمه الحسن السبط بن علي(ع)