2024 March 28 - 18 رمضان 1445
أهمية المذاهب الفقهية في رعاية الوحدة الإسلامية
رقم المطلب: ٢٣٩ تاریخ النشر: ١٠ رجب ١٤٣٧ - ٢٠:١١ عدد المشاهدة: 6656
المذکرة » عام
أهمية المذاهب الفقهية في رعاية الوحدة الإسلامية

هذا البحث يتضمن بيان مدى أهمية المذاهب الفقهية في حماية الوحدة الإسلامية، وذلك على النقيض مما يتصوره بعض الناس.

كما يتضمن بيان الآفات الخطيرة التي لحقت المذاهب الفقهية في أزمنة لاحقة، فعاقتها عن مواصلة دورها الإيجابي في رعاية هذه الوحدة، وأهمَّ ما يجب على المسلمين فعله لإبعاد هذه الآفات عن حظيرة الاجتهاد الفقهي خصوصاً والإسلامي عموماً.

وتتسلسل نقاط هذا البحث طبق الترتيب التالي:

  1. ۱. مقدمة في بيان أن الوحدة الإنسانية هي أهم الأهداف التي تعبَّد الله عبادَه بالإسلام من أجلها.
  2. ۲. معنى المذاهب الفقهية.
  3. ۳. عوامل نشأة المذاهب الفقهية.
  4. ۴. تاريخ نشأة المذاهب الفقهية.
  5. ۵. الاختلافات الفقهية كانت ولا تزال اختلافات تعاونية.
  6. ۶. الآفات التي لحقت بالمذاهب وهي:

        أ‌- تسليط قدر كبير من آثار المذاهب الاعتقادية والسياسية عليها.

     ب‌- إخضاع ضوابط الرواية وفن الجرح والتعديل لتيار بعض المذاهب الاعتقادية والسياسية.    

     ث‌-  تعصب كثير من أتباع المذاهب الفقهية لمذاهبهم.

  1. ۱. كيف نعالج هذه الآفات؟.

الوحدة الإنسانية أهم الأهداف التي جاء الإسلام من أجلها:

لا نزاع في أن وحدة الأسرة الإنسانية، والقضاء على عوامل التشرذم والتفرق فيها من أهم الأهداف التي جاء الإسلام لتحقيقها، على صعيد الحياة الدنيوية هذه.

ولعل من أبرز ما يجسّد هذا الهدف ويؤكده، كلمة "الحبل" التي عبر بها القرآن عن الاسلام، ثمّ أمرٌه الناس جميعاً بالاعتصام بهذا الحبل الذي يمنعهم من التفرق بمقدار ما يمنعهم في الوقت ذاته من الضياع والهلاك، وذلك في قوله عز وجل:

(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)

والقرآن مليء بعد ذلك بالآيات التي تنهى عن التفرق والشقاق، وتوصي بالوحدة والاتفاق وتهيب بالناس، كل الناس، أن لا يكونوا كالجماعات والأقوام الذين خلوا من قبلهم، إذ أعرضوا عن السبيل العريض التي يوحدهم ويجمع شملهم، واستعاضوا عن السبيل العريض التي يوحدهم ويجمع شملهم، واستعاضوا عنها بسبل متعرجة شتى، تفرقوا في متاهاتها، حيث أسلمتهم بدورها إلى أودية الضياع.

ألم يقل: (..وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

أولم يقل أيضاً: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

 

ولكن ما هو المعنى المحدد للوحدة التي جاء الإسلام لتحقيقها ثم لحمايتها؟

إن من المهم جداً أن نطرح هذا السؤال، ولعل من أهم ما يحوجنا إلى طرحه، أن الناس كانوا، ولا يزالون، على الرغم من الحقيقة الإنسانية الواحدة الجامعة لهم، مختلفين في كثير من مشاربهم وعاداتهم، وأساليب تعاملهم مع الحياة ومرافقها، بل كانوا، ولا يزالون مختلفين في لغاتهم وألوانهم وانتماءاتهم العرقية والقومية.

من أجل هذا، كان لا بّد من أن نتبيّن الحجم المحدد المطلوب لهذه الوحدة التي جاء الإسلام لإقامتها، ثم لحمايتها وتغذيتها، بحيث تدرك أن الخطب فيما وراء هذا الحجم يسير، وإن الوحدة إذا تم نسيجها داخل حدود هذا الحجم، عاد الاختلاف فيما وراء ذلك صوراً من التعدد الهامشي لا ضرر فيها ولا خطر منها.

إن الوحدة المطلوبة هنا، هي وحدة الرؤية العقلية إلى الكون والإنسان والحياة، بحيث يصدر الناس جميعاً من عقيدة واحدة بحقيقة الإنسان والحياة التي يتمتع بها، وبالمكونات التي من حوله، وليس المعنّي بحبل الله في الآية السابق ذكرها إلا هذه العقيدة العقلية الشاملة، أما إضافة الحبل هو الله عز وجل، بل لا يملك أحد غير الله عز وجل الذي تفرد بخلق كل شيء، أن يعرفنا بها، ويبصرنا بهويتها.

ومن المعلوم أن الناس إن صدروا عن عقيدة واحدة في فهم هذه العناصر الثلاثة الجامعة لمعنى الكون، لا بد أن يتفقوا على أصول واحدة في التعامل مع الكون على أساسها، وهذه هي التي تشكل بدورها نسيج وحدتهم وتضامنهم.

ولا شك أن من هذه الأصول الأخوة الإنسانية، وعبودية الإنسان لله و وحدة المبدأ والمصير في حياة الانسان.

فإذا اجتمع شمل الأسرة الإنسانية تحت مظلة هذه الأصول، فمن حق أفرادها بل من مقتضيات الفطرة في حياتهم أن تتلوّن منهم الخبرات والعادات وأساليب الحياة تماماً كما تتفاوت منهم القدرات، وتتعدد الألوان، وتتنوع اللغات.

ولولا هذا التلون والتعدد لما وجدت فيهم عوامل التساند والتعاون التي هي بدورها الغذاء الذي لا بّد منه لتنمية واقع الوحدة والتآلف والتضامن.

ومن هنا ندرك أن كثيراً من مظاهر الاختلاف والتعددية في حياة المجتمع الانساني إن هو إلاّ روافد وعوامل أساسية لتعميق معنى الوحدة والتضامن بين أفراده.

ترى هل تعدّ المذاهب الفقهية التي نراها اليوم في المجتمعات الإسلامية، واحدة من هذه المظاهر التي تغذي في الحقيقة والمآل نسيج الوحدة الإسلامية، في حياة المسلمين؟

ولكي يأتي الجواب مدروساً ومدعوماً بالمنطق، يجب أن نعلم أولاً معنى المذاهب الفقهية، وعوامل نشأتها، ومن ثم تاريخ نشأة هذه المذاهب.

فهذه ثلاث نقاط يجب أن نمهد بها للإجابة عن هذا السؤال.

معنى المذاهب الفقهية:

المذاهب الفقهية، حصيلة اختلاف الفقهاء في مسائل اجتهادية غير قاطعة الثبوت أو الدلالة، في نطاق الأحكام السلوكية.

وهذا يعني أن في مصدري الكتاب والسنة، ما هو غير واضح الدلالة على المعنى المطلوب، بل يحمل في طيه أكثر من احتمال واحد. كما أن في السنة ما هو غير قطعي الثبوت، بل تطوف به احتمالات الصحة والحسن والضعف.

ثم إن هذا التعريف يوضح أن هذه الخلافات الفقهية التي هي مادة المذاهب الفقهية لا علاقة لها، من قريب أو بعيد، بالأصول الاعتقادية المتعلقة بحقيقة الكون والإنسان والحياة، أو بما يتفرع عن معرفة هذه الحقائق الثلاث، من سلسلة المعتقدات الإسلامية التي يتكون من مجموعها معنى الإيمان والإسلام.

نعم، إن لها علاقة بهذه الأصول الاعتقادية، ولكنها لا تزيد على أن تكون تحقيقاً لمناطاتها، واستظهاراً لكيفية تطبيقاتها.

وبيان ذلك أن اليقين بوجوب الخضوع للشريعة الإسلامية من أصول المعتقدات الدينية التي لا خلاف فيها. أما تحديد الشريعة وإبرازها من خلال نصوصها ومسائلها الجزئية، فهو الفقه الذي قد تتسرب إلى بعض مسائله عوامل الخلاف والاحتمال..

وعلى سبيل المثال: إن اليقين بوجوب تجنب البدع واحد من أصول المعتقدات الدينية التي لا خلاف فيها، أما تحديد الجزئيات التي ينطبق أو لا ينطبق عليها حدّ البدعة، فداخل في تحقيق المناط، ومن ثم ففيها ما قد يكون انطباق معنى البدعة عليه فيه شيء من الارتياب والاحتمال.

ولكن، لماذا كان في النصوص الفقهية في القرآن والسنة، ما قد يحمل أكثر من دلالة واحدة، ومن ثم كان فيه مجال واسع للاجتهاد والاختلاف.

الحكمة من ذلك أن يأتي مجموع الشرائع السلوكية ذا وجوه وطرق متعددة في استيعاب حاجات الناس ومصالحهم مهما تنوعت هذه الحاجات والمصالح، ومهما تطورت مع تطور الأزمان، وقد غدت هذه الحكمة واضحة جلية من كثرة ما تناولتها الدراسات والأبحاث المتنوعة.

عوامل نشأة المذاهب الفقهية:

يتضح مما ذكرناه في تعريف المذاهب الفقهية أن العامل الأساسي لها، وهو اختلاف الفقهاء، ينبغي أن يكون موجوداً في حياة المسلمين الفقهية منذ عصر النبوة، وهذا هو الواقع المعروف فعلاً، وإليك بيان ذلك:

لقد كان الوحي هو الحاجز الوحيد الذي يمنع تسرب الخلاف غلى الصحابة في استنباط الأحكام الفقهية من بعض النصوص القرآنية، أو الأحاديث النبوية، حتى إذا صادف أن مرت لهم ظروف أحوجتهم إلى معرفة حكم من الأحكام الشرعية التي لم يتضح وجه الدلالة عليها بيقين، وحيل بينهم وبين معرفته تلقياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لجؤوا إلى إعمال النظر والاجتهاد في فهمه، حسب إمكاناتهم وقدراتهم العلمية، فربما اتفقوا وربما اختلفوا في الاجتهاد والفهم، والاختلاف هو الغالب.

وقد كان لا بدّ أن يعرضوا اجتهاداتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد انقشاع تلك الظروف عنهم، فلم نسمع ولم نعلم قط أن رسول الله عنّفهم أو عاتبهم على ذلك الاجتهاد والاختلاف، بل سكت سكوت المؤيد لسعيهم الذي بادروا إليه، بقطع النظر عن تأييده، أو عدم تأييده للنتائج التي انتهوا إليها.

ولعلنا جميعاً نذكر أن من أبرز الشواهد الواقعية على ما نقول، حيرة نفر من الصحابة في فهم المعنى المراد من قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه، يوم بني قريظة: (ألا لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، إذ كانت الشمس أوشكت على المغيب، وهم لم يصلوا العصر بعد، والطريق بينهم وبين بني قريظة ما يزال بعيداً.

ترى أيطلب منهم رسول الله في هذه الحال أن يتركوا صلاة العصر ولو خرج وقتها حتى يصلوا إلى بني قريظة فيصلوها هناك كما أمرهم بذلك، أم المطلوب منهم أن يوجَدٌوا في بني قريظة خلال وقت العصر، بحيث إذا حيل بينهم وبين هذا المطلوب لم يكن من فرق عندئذ بين أن يصلوا العصر في أي الأماكن شاؤوا، ولا شك أن المطلوب عندئذ هو الرجوع إلى الأصل وأداء صلاة العصر في ميقاتها المشروع؟

إن المعنيين: كما نلاحظ، واردان ومحتملان، والمصير الوحيد الذي يملكه أولئك النفر الذين

تخلفوا في الطريق هو الاجتهاد في بلوغ المعنى المطلوب وتحقيقه.

وقد أوقعهم ذلك المصير، كما نعلم، في اختلاف فيما بينهم، فمنهم من ظهرت له دلائل المعنى الأول، ومنهم من تجلت له دلائل المعنى الثاني، ولم يكن من سبيل إلا أن يتحمل كل من الفريقين مسؤولية اجتهاده، وما سكنت إليه نفسه. حتى إذا وصلوا إلى رسول الله وأخبروه بشأنهم، سكت سكوت المؤيد للفريقين، أي للذين قاموا فصلوا العصر قضاء، وللذين عاجلوا فوات الوقت فصلوها في طريقهم إليه.

وعندما رأى أحد الصحابة، وقد وصل متأخراً إلى المسجد، أن النبي صلى الله عليه وسلم يوشك أن يركع، أسرع يركض في المسجد حتى لحق رسول الله في الركوع، اجتهاداً منه بأن ذلك هو الخير. ولنا فرغ رسول الله من الصلاة، وعلم بشأنه، نظر إليه قائلاً: (زادك الله حرصاً ولا تعد).

فقد أعجب النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاده، وشكر له حرصه على أن لا تفوته الركعة مع رسول الله، غير أنه لفت نظره إلى ما هو المفضل في علم الله وهديه، وهو التمهل والمشي الهوينى في المسجد. ولولا وجود رسول الله والوحي الذي كان مؤيَّداً به، لامتّد من اجتهاد ذلك الصحابي مذهب مشروع في اختيار ما هو الأفضل في مثل هذه الحال.

إذن فالعامل الأساسي في نشأة المذاهب، هو اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية المستنبطة من الأدلة المحتملة. وقد رأى رسول الله هذا ولا يعارض تأييده له أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبه الصحابي المجتهد إلى الرأي الصواب أو الأصوب، كقوله لذلك الصحابي: (زادك الله حرصاً ولا تعداً). وكقوله لعمار وقد أجنب في سرية فلم يجد ماء، فتمعك بالتراب، (إنما كان يكفيك أن تضرب بيدك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بها وجهك وكفيك).

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بموقفه ذاك، بين تدريبه أصحابه على الاجتهاد في فهم ما غمض من الأحكام كلما اقتضت الحاجة، وتحويلهم إلى الحكم الصحيح - باعتباره نبياً

مؤيداً بالوحي - كلما تنكب أحدهم في اجتهاده عنه.

هذا، ولم نشأ في هذا البحث المكثف أن نأتي على ذكر جزئيات العوامل المتعلقة بنشأة المذاهب، مكتفين بينبوع هذه العوامل ومصدرها، ألا وهو الاحتمال القائم في الأدلة الفقهية الباعث بدوره على اختلاف الفقهاء، ولا شك أن لهذا الاحتمال أسبابه الجزئية، غير أنها مطوية في هذا العامل الرئيسي، ولا غرض لنا في تفصيل القول عنها في هذا الصدد.

تاريخ نشأة المذاهب الفقهية:

يعود تاريخ نشأة المذاهب الفقهية إلى عصر الصحابة، وهو العصر الذي يلي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة.

فقد كان فقهاء الصحابة، على الرغم من اتفاقهم في معرفة أكثر الأحكام الفقهية، يختلفون في فهم بعض يسير منها. فكانت الآراء التي يختص بها أحدهم تشكل مذهبه الفقهي الذي ينفرد به عن الآخرين. ولا شك أنه لا مدخل لقلّة الآراء. أو لكثرنها في تكوين المذهب الفقهي إذ إن حجم المذهب، اتساعاً وضيقاً، يكون تابعاً لحجم المسائل التي يتكون منها.

فحتى لو لم يكن للفقيه أكثر من رأي اجتهادي واحد في مسألة فقهية واحدة، فإن انفراده برأيه الخاص في تلك المسألة يجعل له في ذلك، بكل جدارة، مذهباً.

ومن هنا فقد كان لعبد الله بن عباس مذهب خاص به في جملة من المسائل الفقهية، وكان لعبد الله بن عمر مذهبه الخاص، أيضاً في جملة أخرى من المسائل، وكان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه مذهبه الخاص به في مثل ذلك... وهكذا.

ويعود السبب في عدم بروز مذهب كل من هؤلاء الصحابة، وعدم ارتباطه باسمه خلال التاريخ، كما هو الشأن في مذاهب الأئمة الأربعة، إلى أنّ أياً من مذاهب الصحابة لم يتح له أن يٌجمَعَ، وأن يدوَّن وينسب إلى صاحبه خلال القرون كما قد أتيح لمذاهب الأئمة الأربعة .هذا

بالإضافة إلى أن الأنشطة العلمية لأولئك الصحابة إنما تجلت في اجتهادات جزئية متناثرة، دون أن ينظمها منهج كلي، إذ لم تكن قد ظهرت الحاجة بعد إلى الاعتماد في الاجتهاد على موازين ومناهج تعصم عن الخطأ، أما تطور المذاهب الفقهية، فالبحث في ذلك يطول، ولسنا هنا بصدد تفصيل القول في ذلك. غير أن أهم ما يجدر لفت النظر إليه، أن من أهم العوامل التي أدت إلى تطوير المذاهب الفقهية، تفرقٌ الصحابة، في خلافة عثمان وما بعدها في الأمصار المختلفة، وهو الأمر الذي طبع تلامذتهم من التابعين بطابع المكان الذي استوطنوا وأقاموا فيه.

وقد كانت مدرسة الرأي في العراق، ومدرسة الحديث في الحجاز، أول، بل أخطر مظهر من مظاهر هذا التطور الذي جاء نتيجة لهذا العامل الكبير.

غير أن نتائج إيجابية أخرى تلت هذه النتيجة السلبية، بل كانت ثمرة طيبة لها. من أبرزها هنا ظهور منهج يلتقي عليه الأطراف جميعاً للسير على أساسه في ضبط عملية الاجتهاد الفقهي، وهو النهج الذي يتمثل في قواعد تفسير النصوص أو ما كان يسمى بعلم أصول الفقه.

من أهم هذه النتائج الايجابية أيضاً تلاقي مدرستي الرأي والحديث على طريقة عادلة مثلى منعت من الوقوع، الذي كان وشيكاً، في كلا طرفي الإفراط والتفريط.

ومن النتائج الإيجابية الهامة أيضاً ظهور علم مصطلح الحديث، وعلم الجرح والتعديل، والاهتمام بضبط الرواية وحمايتها من الزيف والدس.

ومن هذه النتائج كثرة الرحلات العلمية في سبيل الفقه والحديث، وكثرة الحوار والنقاش في المسائل الفقهية، الأمر الذي ضيق من حجم الخلافات الفقهية وجذب كثيراً من الآراء المتخالفة إلى ساحة الاتفاق.

ففي ظل هذه النتائج ظهرت المذاهب الأربعة، ومذاهب كثيرة أخرى لم تكتب لها الشهرة التي

كتبت لتلك.

الاختلافات الفقهية كانت ولا تزال اختلافات تعاونية:

الآن، وقد تم بيان وجيز للنقاط الثلاث التي رأينا أن نمهد بها للإجابة عن السؤال الذي تطارحناه، نقول:

إننا لا نرتاب على ضوء ما قد ذكرناه الآن، في أن نشأة المذاهب الفقهية وتطورها وانتهاءها إلى التي هي عليها الآن، كل ذلك كان خير حماية للوحدة الإسلامية من التصدع والشقاق.

وقد يبدو غريباً في أذهان بعض الناس أن تكون اختلافات المسلمين في فهم الشريعة الإسلامية تعميقاً لعوامل وحدتهم وحماية لها من عادية التفرق والشقاق.

غير أن هذا الاغتراب صحيح عندما يكون مآل لاختلاف أن ينسب كل فريق صاحبه إلى انحراف في الفهم والسلوك، أو إلى الوقوع في خطيئة لا تغتفر.

غير أن الذي تبيّن لنا من معنى المذاهب الفقهية وعوامل نشأتها، أن الخلافات الفقهية التي تشكل العمود الفقري في تلك المذاهب، كانت خلافات تعاونية مبررة، لا خصومات أو شقاقات فكرية مجرّمة.

ومعنى هذا أن نسيج الوحدة الاسلامية إنما تلاقت سداه ولحمته من هذه الخلافات التعاونية. إذ لولا الساحة التشريعية العريضة التي تكونت من مجموع الاجتهادات الفقهية المتعددة، لما أتيح للمساحات الإسلامية الشاسعة والمتنوعة، أن تتلاقى وتتلاحم تحت مظلة شرعة واحدة. ومن ثم لما أتيح لها أن تخضع، على اتساعها، لنظام دولة واحدة.

وإن نظرة واحدة متدبرة إلى التفاعل الذي كان قائماً، في صدر الإسلام، وأيام الخلافة الراشدة وما بعدها، بين أنشطة المذاهب الفقهية من جانب، ومظاهر وحدة الدولة الإسلامية من جانب آخر، ليبرز ويؤكد الحقيقة التي نقولها. وما سمعنا في التاريخ قط أن خلافات المذاهب الفقهية

كانت وبالاً على الوحدة الإسلامية في أيّ من عصورها الذهبية، وما ينبغي، ونحن نؤكد هذه الحقيقة، أن ننسى دور الفكرية، واعتماد الفقهاء على قواعد تفسير النصوص التي تم تدوينها في أواخر القرن الثاني، في تحصين هذه المذاهب ضد عادية الشرود، وعوامل الانزلاق في المتاهات التي من شأنها أن تنتزع ثقة الأئمة والعلماء بعضهم ببعض، وأن تحيل اختلافاتهم التعاونية إلى اتهامات وشقاق.

ولا داعي إلى أن نعيد إلى الذاكرة ثناء أئمة المذاهب الأربعة بعضهم على بعض، وصلة الود والتقدير المتبادلين بين الإمام الشافعي والإمام أحمد، وإعجاب كل منهما بالآخر، وثناء الإمام الشافعي على أبي حنيفة وتلميذه محمد وأبي يوسف، وقول الشافعي عن الإمام مالك: "مالك معلمي وعنه أخذنا العلم".

الآفات التي لحقت بالمذاهب الفقهية:

غير أن المذاهب الفقهية على الرغم من دورها الإيجابي، في ترسيخ بناء الشريعة الإسلامية، وتعميق دعائم الوحدة الإسلامية، خلال ما لا يقل عن خمسة قرون من عمر الشريعة الإسلامية، أصابتها، كأي شيء آخر آفات قلصت الكثير من آثارها الإيجابية، وكادت أن تحيل آثارها المفيدة الوحدوية إلى نتائج سلبية ضارة في كثير من الأحيان.

وتتلخص هذه الآفات في:

  1. ۱. تسليط قدر كبير من آثار الاختلاف بين الفرق الاعتقادية والسياسية عليها.
  2. ۲. إخضاع ضوابط الرواية وعلم الجرح والتعديل لتيار بعض المذاهب الاعتقادية والسياسية.
  3. ۳. تعصب أتباع المذاهب لمذاهبهم .

فلنفصل القول في كل من هذه الآفات بالقدر الذي تتعلق به الحاجة في هذا المقام.

أولاً: أثر الاختلافات الاعتقادية والسياسية على المذاهب الفقهية:

من المعلوم أن أكثر المذاهب الاعتقادية التي يعبر عنها بالفرق، بادت بعد أن انتشرت وسادت فالمرجئة والجهمية والقدرية والمجسمة والحشوية، وحتى المعتزلة، ما كادت تعبر عن ذاتها وأفكارها بالجدل هنا وهناك حيناً من الوقت، حتى أخذت تضمحل ثم تذوب في تيار العقيدة الإسلامية الكبرى المتمثلة فيمن يٌسَمَّونه بأهل السنة والجماعة.

ولا يخفى أن الفضل في ذلك يعود إلى إمامين جليلين ظهراً في عصر واحد، أحدهما الإمام أبو الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعري (260-330)، وثانيهما الإمام محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي (000-268).

إن أياً من هذين الإمامين لم يكن صاحب مذهب أو نحلة، أو داعياً إلى أي بدعة جديدة. بل انحصر عمل كل منهما في الانتصار لكتاب الله وسنة رسوله، وفي السعي الدؤوب للعودة بالمسلمين إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بعيداً عن سائر البدع والأهواء المستحدثة.

وقد كانت جماعة الفقهاء والمحدثين والمشتغلين بالتفسير في الحجاز وبلاد الشام والعراق قد اعتزلوا الخصومات التي ارتفع أوارها بين تلك الفرق المبتدعة المتهارجة، ومضى كل منهم يعكف على ما تفرع له من حديث أو فقه أو تفسير.

فلما رأوا الإمام الأشعري واقفاً في وجه تلك التيارات كلها، يذبّ عن حياض الكتاب والسنة، داعياً إلى النهج الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون من بعده، أقبلوا إليه من كل حدب وصوب يؤيدونه ويدعمونه وينتصرون له، ومن ثم سمَّوه نصير أهل السنة.

وقد كان في مجمل عمله الذي قام به كل منهما، أشبه ما يكون بمن أقبل على جادة عريضة تكاثرت فوقها الأتربة والحجارة والرمال، حتى ضاع على المارة معالمها وتاهوا عن حدودها، فجعل يزيح عنها الأتربة والرمال، ويعيدها معبّدة تحت الأقدام، ويجلّي معالمها وحدودها أمام الأنظار.

أي أن الإمام الأشعري لم يٌنشئ ولم يبتدع أي مذهب جديد، وإنما عمد إلى الصراط العريض الذي تركه رسول الله جلياً واضحاً ظاهره كباطنه، ثم جاءت تلك الفرق المبتدعة فمدت فوقه من خصوماتهم وابتداعاتهم سحباً وغشاوات ضيعت معالمه على الآخرين وعلى كل من سيأتي بعدهم، فبدد هذا الإمام تلك السحب والغشاوات، وأعاد ذلك الصراط كما تركه رسول الله ناصعاً جلياً بصدق بلائه وانتصاره لكتاب الله وسنة رسوله، فلذلك خرج علماء الفقه والحديث والتفسير عندئذ من عزلتهم الطويلة التي كانوا قد آثروا الالتجاء إليها فراراً من صخب تلك المجادلات، وأقبلوا يؤيدون الإمام الأشعري من كل الجهات وأحاطوا به إحاطة الجنود بالقائد.

وهذا ما فعله الإمام الماتريدي أيضاً، في بلاد ما وراء النهر.

والمهم أن نكون على بينة من ان الإمام الأشعري لم يكن صاحب فرقة تضاف إلى تلك الفرق المبتدعة، كما توحي بذلك المدارس الاستشراقية المختلفة، ولو كان في حقيقته كذلك، إذن لما أقبل إليه جماهير علماء الفقه والحديث والتفسير مؤيدين ومنتصرين، وهم الذين كانوا قد قاطعوا واعتزلوا الفرق المبتدعة كلها.

 

يقول ابن السبكي في طبقات الشافعية:

"اعلم أن أبا الحسن الأشعري لم يبتدع رأياً ولم ينشئ مذهباً، وإنما هو مقرر لمذهب السلف، مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالانتساب إليه إنما هو بأنه عقد على طريقة السلف نطاقاً وتمسك به، وأقام الحجج والبراهين عليه فصار المقتدى به في ذلك السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعرياً".

ويقول ابن خلكان: "هو صاحب الأصول والقائم بنصرة مذهب أهل السنة، وإليه تنسب الطائفة الأشعرية".

 

وقال عنه ابن العماد في شذرات الذهب:

"وقد بيض اله ضبه وجوه أهل السنة النبوية، وسوّد به رايات أهل الاعتزال والجهمية، فأبان به وجه الحق الأبلج، ولصدور أهل العلم والعرفان أثلج".

 

وقال عنه ابن عساكر:

"اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رضي الله عنه كان إماماً من أئمة أصحاب الحديث، ومذهبه مذهب أصحاب الحديث، تكلم في أصول الديانات على طريقة أهل السنة شدَّد على المخلفين من أهل الزيغ والبدعة".

إذن فلقد اختفى جلّ تلك الفرق المتهارجة التي ظهرت على ساحة المجتمع الإسلامي ظهور الثآليل على الجسم السوي الصحيح، وعادت أصول الوحدة الاعتقادية والفكرية لهذه الأمة راسخة مستقرة من جديد، اللهم إلا أن الفكر الاعتزالي، الذي ساد ثم باد، تسعى اليوم مدارس استشراقية معروفة إلى ابتعاثه من جديد، وذلك خلال بث الدعاية لنثارٍ من مواقفه وآرائه الجزئية.

بوسعنا إذن أن نقول: إن هذه الفرق لم تترك خلال فترة هياجها أثراً سلبياً يذكر في علاقات المذاهب الفقهية بعضها ببعض.

إلا أنه من الممكن أن نلاحظ ظاهرتين تجسدان نوعاً واضحاً من التفاعل أو التأثير المتبادل بين بعض تلك الفرق الاعتيادية والمذاهب الفقهية، وبوسع الباحث أن يرى هذا التأثير ظاهرة إيجابية مفيدة، كما أن بوسعه أن يفسرها تفسيراً آخر مخالفاً.

الظاهرة الأولى: المذهب الإباضي، ونحن نعلم أن الإباضية هي الفرقة المتبقية من ست فرق تشكل جلّ من يسمون بالخوارج، أما الفرق الخمس الأخرى فقد تاب كثير منهم، ورجعوا عن ضلالتهم بحكمة سيدنا علي رضي الله عنه في محاورته لهم، واتساع صدره معهم، وقضى على سائرهم ممن أبى إلا التكفير والقتال.

وفرقة الإباضية هذه، أقل الخوارج شططاً وغلواً، وأكثرهم ورعاً والتزاماً وقد كان المفروض أن تبقى أفكارهم الفقهية التي اختصوا بها، محصورة في النقاط المتعلقة بالأمور الاعتقادية الخاصة بهم. غير أنهم تجاوزوا ذلك إلى إقامة بنيان فقهي خاص بهم، وظهرت لهم المؤلفات بل الموسوعات الفقهية التي تعبر عن شخصية فقهية خاصة للفرقة الإباضية.

والراجح الذي تسكن إليه النفس أن فقهاء المذهب الإباضي، لو لم تكن أفكارهم الاعتقادية والسياسية قد شكلت منهم جماعة مستقلة، لكانوا اليوم تلامذة، بل فقهاء بارزين تتوازعهم المذاهب الفقهية الأربعة.

ولكن جذورهم الفكرية الاعتيادية، أبت عليهم إلا أن تكون لهم شخصية فقهية مستقلة هذا مع العلم بأن جل آرائهم الفقهية لا تخرج، لدى تمحيص النظر فيها عن دائرة المذاهب الأربعة.

إن الأثر السلبي الذي لا يغيب عن بال أحدنا لهذه الظاهرة، أن الشاب الإباضي يحسب، وهو يرى أمامه مذهباً فقهياً خاصاً بالإباضية، أن مذهبه الاعتقادي الموروث يفرض عليه أن لا يتخذ من دون مذهبه الفقهي مذهباً، ومن ثم فهو ينظر إلى سائر الاجتهادات الفقهية الأخرى، على أنها غير صالحة له ولا تتفق مع مذهبه الاعتقادي أو السياسي.

إلا أن الأمر في واقعه العملي، مخالف تماماً لهذا التصور. فإن المصادر المعتمدة لاستنباط الأحكام الفقهية، مستقلة كل الاستقلال عن الأدلة المعتمدة في آرائهم الاعتقادية، لا سيما الإباضية، الذين لا نكاد نجد فرقاً بينهم وبين جمهور أهل السنة في جل الأحكام الفقهية الاجتهادية.

الظاهرة الثانية: المذهب الشيعي الذي تفرعت عنه مذاهب فقهية متعددة، من أبرزها مذهب الإمامية، والزيدية، والهادوية... إلخ.

ولسنا الآن بصدد بيان الفروق القائمة بين هذه المذاهب التي تؤول بجملتها إلى مذهب واحد، ولكن الذي يهمنا في هذا الصدد أن نتساءل عن علاقة البنية الفكرية والعقائدية لمذهب الشيعة عموماً بالمنهج المقرر عندهم في الاجتهادات الفقهية..!

إن كلاً من الإمام محمد الباقر، وابنه جعفر الصادق، وزيد بن علي رضي الله عنهم جميعاً، من أبرز أئمة الفقه الشيعي اليوم. وما من مسألة فقهية في مذهب الشيعة إلا وتنسب إلى واحد من هؤلاء الأئمة الثلاثة.

غير أننا عندما نعود إلى أصول الاجتهاد الفقهي، المعتمدة عند هؤلاء الأئمة الأعلام، لا نجد أيّ فرق بينها وبين الأصول الاجتهادية المتبعة لدى سائر الفقهاء، لا سيما أئمة المذاهب الأربعة.
بل لقد كان بين هؤلاء الأئمة الثلاثة وأئمة المذاهب الأربعة، من التفاعل والتعاون ما يؤكد أنهم كانوا ينهلون من مصادر فقهية واحدة، ومن ثم فقد كانوا جماعة بل كتلة فقهية واحدة. ولقد لقي أبو حنيفة كلاً من زيد بن علي، ومحمد الباقر وجعفر الصادق فدارسهم وأخذ منهم. ووافقهم في حب آل البيت والتعلق بهم ووافقوه في تقدير الخلفاء الثلاثة واحترامهم وعدم ذكرهم بأيّ سوء.

ولقد لقي الإمام مالك إمام دار الهجرة جعفر الصادق رضي الله عنه وأخذ عنه وكان يذكره بأحسن ما يذكر طالب شيخه.

روى السيوطي في تزيين الممالك أن الإمام مالك قال: "كنت آتي جعفر بن محمد، وكان كثير المزاج والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم، اخضر واصفرّ، ولقد اختلفتٌ إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما يقرأ القرآن، وإما صائماً، وما رأيته قط يحدث عن رسول الله إلا على طهارة، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء العباد الزهاد، وما رأيته قط إلا ويخرج الوسادة من تحته، ويجعلها تحتي...".

إذن، فقد كان المنهل الفقهي وأصول الاجتهاد عند هؤلاء جميعاً واحدة، وكانوا يتلاقون على خدمة الشريعة الإسلامية وتجلية أحكامها، أسرةً علمية وإسلامية واحدة.

وقد كان من مقتضى ذلك أن لا ترى اليوم للشيعة، إمامية أو زيدية كانوا، مذهباً فقهياً خاصاً يستقلون به، غير أن الواقع الذي آل إليه الأمر أخيراً خلاف ذلك فإن للشيعة اليوم مذهباً فقهياً خاصاً بهم، بالإضافة إلى مذهبهم الاعتقادي، أو السياسي الذي تفردوا به.

وإن أحدنا ليسأل: كيف أمكن أن يتكون للشيعة فقه مستقل وخاص بهم، مما زادهم انشطاراً واستقلالية عن جمهرة أهل السنة والجماعة، مع ما نعلمه يقيناً بأن كلاً من زيد بن علي ومحمد الباقر وجعفر الصادق - وهم ركائز ومصادر ما يسمى اليوم بالفقه الشيعي - كانوا أساتذة لأكثر أئمة المذاهب الأربعة، إن لم نقل أنهم كانوا أساتذة وشيوخاً لهم جميعاً ولم نعثر بعد طول البحث والتحقيق، على أي تحفظ فكري أو مذهبي من أي الطرفين للآخر، بل إننا لنسأل: ما الذي حال دون استمرار هذه الوحدة المذهبية إلى اليوم..؟

أغلب الظن أن الشخصية الفقهية للشيعة، نشأت فيما بعد، مع الزمن، وإنما نشأت ظلاً لشخصية التشيع وآثاره وذيوله، وهذا ما لم يكن موجوداً في عهد أولئك الأساطين الثلاثة في القرون الثلاثة المباركة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولعل بروز هذه الشخصية الفقهية فيما بعد، لم تكن إلا نتيجة عامل واحد، هو الغلوّ في معنى الانتصار والتشيع لآل البيت، على أن هذا الغلو ذاته لم يكن ليستدعي انشطار الشيعة عن جمهرة المسلمين فيما هم جميعاً متفقون عليه، وسائرون منه على صراط واحد، ألا وهو الأحكام الفقهية العملية.

فإن كان لذلك عامل آخر، فهو إذن هذا العامل الثاني الذي سنتكلم عنه والذي يشكل في الوقت ذاته الآفة الثانية من الآفات التي لحقت المذاهب الفقهية.

ثانياً: إخضاع فن الرواية وعلم الجرح والتعديل لشرط العصمة:

وإنما اشترطها الشيعة في الأصل لصحة الإمامة، سواء منهم من يرى أن الإمامة محصورة في أولاد فاطمة رضي الله عنها بالنص عليهم واحداً إثر آخر، أو من يرى أن مساق الخلافة في أولادها ولكن باختيار الشيوخ ولهم على ذلك أدلتهم التي يسوقونها.

غير أنهم، أو كثيراً منهم، سحبوا هذا الشرط إلى فن الرواية والجرح والتعديل، فجعلوا من جملة شروط قبول الرواية أن يكون الراوي من آل البيت، ولعلهم إنما يشترطون ذلك تلمساً لمزية العصمة في الرواة. إذ لو لم يٌفْتَرَض انفراد آل البيت بها لما كان ثمة أي معنى لاشتراط كون الرواي من آل البيت.

إن اعتبار هذا الشرط، ووضع الشيعة له فيما بعد موضع التنفيذ، كان لا بّد أن يفرد الشيعة بمنهج مستقل في فهم الحديث الصحيح، وشروط الأخذ به، ومن ثم فقد كان لا بّد أن ينبثق لهم من ذلك فقه خاص بهم يعتمد على أحاديث خاصة بهم.

ونحن لا نريد هنا أن نناقش هذا الشرط الذي فرضوه، في الأصل لصحة الإمامة غير أن نوضح أن أياً من أئمة آل البيت رضي الله عنهم، وفي مقدمتهم أولئك الأعلام الثلاثة لم يقتصر في أخذه الحديث على آل البيت.

بل روى عنهم وعن عامة الصحابة، وعن كثير من التابعين، كإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيب، وعبيد الله بن أبي رافع..! كما أن آل البيت لم يكونوا هم المنفردين بالرواية عن كل منهم، بل التقى على الرواية عنهم والأخذ منهم جمهرة أهل السنة والجماعة من آل البيت وغيرهم.

فكان من آثار ذلك أن اتحد سبيل الاجتهاد الفقهي فيما بينهم وانطلقت موازينه من رؤية وأصول واحدة. إذن فما المبرر لهذا الانشطار الذي ظهر فيما بعد؟ ومن أين انبثقت ضرورة عدم أخذ الحديث إلا من آل البيت، وحصر الرواية فيهم؟

ثالثاً: تعصب اتباع المذاهب لمذاهبهم:

نشأت هذه العصبية في القرون المتأخرة، ولعلها زادت واستشرت في أواخر عهد الخلافة العثمانية، إذ كان المذهب الحنفي هو المعتمد من قبل الدولة، ومن ثم فقد كان هو السائد في أكثر المناطق لنفوذ الأتراك.

ولعل أتباع المذهب الحنفي هم أول من أظهروا العصبية لمذهبهم، فألحقوا به ذيولاً من الأحكام التي لم تكن معروفة من قبل كتحريم الانتقال من المذهب الحنفي إلى غيره، وإخضاع من يفعل ذلك لنوع من التعزيز، وكالتشنيع على الاجتهادات الفقهية عند بعض المذاهب الأخرى، في كثير من حواشي المتأخرين، حيثما مرت لذلك مناسبة، ولعل متأخري الحنفية هم أول من ابتدعوا إنشاء عدد من المحاريب في المسجد الواحد، بقدر عدد المذاهب المنتشرة في تلك المنطقة، وكان ذلك تمهيداً لتنظيم أربع جماعات في المسجد الواحد لكل صلاة، وإيعازاً بحرمة اقتداء الشافعي بالإمام الحنفي والعكس، ولقد انتشرت هذه العادة فعلاً في البلاد التي ينتشر فيها أكثر من مذهب واحد كبلاد الشام والعراق. وفي المسجد الأموي بدمشق يوجد إلى الآن أربعة محاريب لأربعة مذاهب، ولكل منها إمام راتب يفترض أن لا يقتدي به إلا من هم على مذهبه.
هذا مع العلم بأن الإجماع منعقد على صحة اقتداء المصلي بالإمام الذي ينتمي إلى مذهب مخالف لمذهبه، ما دام أنه غير متأكد من أن الإمام متلبس بما يبطل الصلاة في مذهب المقتدي على أن هذا في حق من كان لديه من الثقافة الفقهية ما يجعله أهلاً لإتباع مذهب فقهي بعينه فأما عوام الناس، فإن مذهب أحدهم إنما هو مذهب الإمام الذي يقتدى به.

ومن الطبيعي أن ينشأ عن هذا التعصب ردود فعل من جنس المشكلة ذاتها لدى أتباع المذاهب الأخرى، وقد ظهرت ردود الفعل هذه في مظاهر متعددة.

فمنها اعتداد كل صاحب مذهب بمذهبه، إلى درجة الاستهانة والانتقاص من المذاهب الأخرى، وهكذا، فبعد أن كان الخلاف بين أئمة هذه المذاهب خلافاً تعاونياً كما قلنا، تحول الخلاف بين أتباعها في كثير من الأحيان إلى تنافس وتخاصم واتهام.

ومنها الركون إلى المماحكات والمجادلات المؤلمة والجارحة، في جزئيات فقهية مما وقع فيه الخلاف، كإسبال اليد وعدم إسبالها في الصلاة، وكالقنوت أو عدم القنوت في صلاة الفجر وكقضاء الصلاة الفائتة أو عدم قضائها، وكمشروعية أو عدم مشروعية جلسة الاستراحة في الصلاة...إلخ، فبعد أن كانت هذه المسائل توضع في أماكنها من الاعتبار ضمن سلّم الأولويات، عند الأئمة والفقهاء السابقين، وكانوا يمرّون باجتهاداتهم عندها، دون أن يستشعر أحدهم بأيّ وقع لاختلافاتهم فيها، إلى درجة أن الإمام الشافعي أمسك عن القنوت في صلاة الصبح في مسجد أبي حنيفة ببغداد، ولما سئل عن ذلك قال: أدباً مع صاحب هذا القبر أقول بعد أن كان هذا هو موقف الأئمة السابقين من هذه المسائل الجزئية، خلف من بعدهم خلف يتباهون بآرائهم الشخصية في هذه المسائل، ويجعلون منها عصيّ تأديب، واتهام لكل من خالفهم فيها، ولا يبالون أن يثيروا أخطر أنواع الشجار فيما بينهم، وربما داخل المساجد، لينتصر كل منهم لنفسه في ساحة هذه الجزئيات التي ليست لها أي أهمية في ترتيب سلّم الأولويات.

ومن أسوأ ما أفرزته هذه الخصومات التي بلغت في كثير من الأوقات إلى درجة اللكم و الصفع في داخل المساجد، كتاب أصدره أحدهم بعنوان "الأزهار الفواحة في سنة جلسة الاستراحة".

وواضح جداً لكل ذي وعي من الناس أن هذا الخصام الشديد الذي يمزق وحدة المسلمين إرباً، ليس انتصاراً لدين الله من خلال هذه الجزئيات الصغيرة التي يسع المسلم أن يتقرب إلى الله بفهمها على الوجه الذي يريد، بل يسعه أن لا يلتزم بها أصلاً، وإنما هو انتصار في الحقيقة للنفس على حساب مصلحة الدين، بل في مقابل القضاء على ما أقدس ما جاء الإسلام لتحقيقه ثم لحمايته، ألا وهو وحدة هذه الأمة وتضامنها.

ولعل هذه الظاهرة التي نعاني منها اليوم، هي أبلغ وأخطر ما قد وصلت إليه العصبية المذهبية، بل عصبية الاختلافات الفقهية عموماً، في حياة المسلمين.

وإني لأعلم أن المتربصين بالإسلام والمسلمين، يستغلّون هذه المصيبة التي جرّها المسلمون بأيديهم على أنفسهم، أبشع استغلال.

وأخيراً: كيف نعالج هذه الآفات..؟

ليس فينا من يجهل القاعدة القائلة: إدراك المشكلة واليقين بأنها مشكلة يساوي نصف الطريق إلى حلّها.

وفي يقيني، بأن إيماننا جميعاً بأن هذه الآفات الثلاث، هي فعلاً آفات خطيرة تقلب الآثار الإيجابية المفيدة للمذاهب الفقهية إلى آثار سلبية ضارة، يشكل أهم مراحل المعالجة لها.

من الذي يدرك أن هذه الآفات الثلاث هي فعلاً كما قلنا، ثم يركن مع ذلك إليها ويدعمها في دراساته العلمية وسلوكه العملي، إلا إن كان ممن يضيق ذرعاً بقوة هذه الأمة، ويسعد برؤيتها متفرقة متخاصمة ..؟!

ولكن، ترى هل يوجد فينا من لا يؤمن بأن هذه الآفات هي فعلاً آفات؟

وإذا وجد فينا من لم يكن يؤمن بذلك، أفلا يرى ما هو خاضع لسلطان التجربة والمشاهدة، من النتائج السيئة لها، والتي لا يرتاب في شدة سوئها وآثارها الضارة أحد؟

فإن كان هناك من يكابر، ويصف هذه الآفات بنقائضها من الخير والفائدة للإسلام والمسلمين فليس عندئذ من جدوى ولا علاج لتحطيم كبرياء هذه المكابرة، إلا أن نستثير في الألباب والنفوس عوامل الإخلاص لدين الله والسعي إلى مرضاة الله.

ومحال، لمن أخلص لله عز وجل في علمه وسعيه، أن يتيه في هذه الساحة عن معرفة الحق أو أن يلتبس عليه الانتصار للنفس وكبريائها، بالانتصار لدين الله و اتباع مرضاته.

غير أن الإخلاص لدين الله سرّ يودعه الله - كما قالوا - قلب من أحب من عباده، فلا سبيل للحصول عليه يتصنع أو تكلف. إذن فما السبيل للحصول على هذا السرّ الرباني العظيم؟

السبيل هو أخذ النفس بمنهج تربوي جادّ ودائم، قوامه الإكثار من ذكر الله وربط النعم دائماً بالمنعم، فإن المسلم إذا استقام على استعمال هذا العلاج، تنامت محبة الله بين جوانحه وإنما ينبثق الإخلاص من هذا الحب.. وفي ضرام هذا الحب تنمحي حظوظ النفس وتذوب مشاعر الكبرياء، وتتجلى هذه الآفات على أنها فعلاً آفات.

وما أسهل حينئذ القفز فوقها، والعود إلى سنن الرشد الذي كان عليه السلف الصالح، إذ كان اختلافهم اختلافاً تعاونياً، يزيدهم ألفة وتضامناً وحباً.

نقاط أربع لعلها تشكل الأمة الإسلامية الواحدة:

مدخل وتحرير لمحل البحث:

كلمتان في موضوعنا هذا، ينبغي تحرير المراد بكل منهما، قبل الخوض في مسائله وتفرعاته

الكلمة الأولى:

(التقارب) ما المعنى المراد بها في هذا المقام..؟ أعتقد أن فينا من يظن أن المراد بها تضييق مساحة الخلاف بين المذاهب الإسلامية جهد الاستطاعة. وإنما يكون سبيل ذلك "إذا كان هذا هو المراد"، التلاقي على الحوار والمناقشة في النقاط الخلافية التي يظن أن من اليسير الاتفاق فيها على رؤية واحدة، لو تم التحقيق بشأنها.. كما أعتقد أن فينا من يفسر هذا التقارب بقبول كل منا للآخر على وضعه الذي هو فيه، وإنما يكون السبيل إلى ذلك "إذا كان هذا هو المراد"، أن ينظر صاحب كل مذهب إلى الآراء المخالفة في المذهب الآخر، على أنها داخلة في القضايا الاجتهادية التي يٌلْزَم فيها المجتهد بما قد بصّره به اجتهاده. سواء أخذنا برأي المصوبة الذين يرون أن الحق في المسائل الاجتهادية تابع لما انتهى إليه اجتهاد المجتهد، أو أخذنا برأي المخطئة الذين يرون أن الحق ليس تابعاً إلا لما ثبت أنه الحق في علم الله عز وجل.

والذي أجزم به أن التفسير الأول للتقارب غير صالح، ومن ثم فهو غير وارد ولا مراد، بل الراجح أن محاولة التقريب عم هذا الطريق، لا تزيد أصحاب المذاهب إلا جفوة وتباعداً، ولو كان في النقاط الخلافية ما يمكن التلاقي بشأنه على رأي واحد، لكان في جهود السابقين خلال الأجيال المنصّرمة ما حقق ذلك.

إذن فالتفسير السليم لكلمة التقارب هنا، هو التفسير الثاني، أي أن يتّسع صدر كل منا، بل فكره وعقله، لقبول ما عند الآخر، وذلك عن طريق الاحتكام إلى المصير الذي لا بّد منه، ولا بديل عنه، في القضايا الاجتهادية.

الكلمة الثانية:

المذاهب الإسلامية، ما المعنى المراد بها..؟ أهو المذاهب المتخالفة في بعض الأصول الاعتقادية، أم هو ما يشملها ويشمل المذاهب الفقهية، أي المتخالفة في بعض فروع الشريعة؟
الذي أراه، أن من الخير تعميم المراد بكلمة "المذاهب" هذه، بحيث تشمل المذاهب الفقهية والاعتقادية، ما دمنا نسميها مذاهب إسلامية، ذلك لأنا نشهد في عصرنا هذا ظاهرة مؤسفة، أبرزت الاختلافات الفقهية بين المذاهب الفقهية على أنها مصدر من مصادر العصبية للرأي، بل للذات، بعد أن كانت مصدراً من مصادر التفاهم والتعاون والتيسير، ومن ثم غدت هذه الاختلافات الفقهية أو كثير منها سبباً من أسباب الفرقة والاتهام بالضلال والابتداع.!

إذن فليكن محور حديثنا في معالجة هذا الموضوع البحث عن منهج لتعايش أفضل بين المذاهب الإسلامية على اختلافها.

إن المنهج السليم إلى هذا التعايش، يمكن العثور عليه، من خلال العمل على تنفيذ النقاط التالية:

النقطة الأولى: الانطلاق من خطوة تأسيسية لا بّد منها، هي الإخلاص في كل من القصد والعمل لله عز وجل.

والحديث عن الإخلاص لله تعالى يحفّ به أكثر من مشكلة واحدة.. من ذلك ما هو معروف من أن شرط الإخلاص لقبول الأعمال وصلاحيتها، من البدهيات التي لا يجهلها أحد، والتي لا ينكر أهميتها أحد. فكأن الحديث عنه يغدو، والحالة هذه، تحصيلاً لحاصل، أو اتهاماً للمسلمين العاملين في الحقل الإسلامي أو لكثير منهم، بالإعراض عن أجلّ بدهية من بدهيات الدين..! ومن ذلك أن الإخلاص من أجلّ أعمال القلب، فهو أمر خفي لا يعلم بوجوده أو عدمه في سريرة الإنسان إلا الله عز وجل، ومن ثم كانت إحالة المصائب والآفات التي تحيق بالمجتمع الإسلامي على الرغم من أنشطته وتحركاته، إلى غياب الإخلاص لله تعالى عن القلوب، اتهاماً كبيراً يوشك أن يكون عارياً عن الدليل عليه، فما أيسر أن يتبرأ الموصوم بذلك عن هذه التهمة، بل ما أيسر أن يرمي الذي يصمه بها بأنه قد تجاوز الظاهر الذي لا حق له في تجاوزه، إلى الباطن الذي لا سبيل له إليه، إذ لا يطلع عليه إلا الله عز وجل.

أقول: فلو التفتنا إلى هاتين المشكلتين بالنظر والاهتمام، لكان علينا أن نمسك عن الخوض في أمر الإخلاص وبيان أهميته، والتحذير من التساهل فيه، كي لا يحرج الناصح نفسه، ولكي لا يتهم الآخرين بدون دليل.

ولكن العلماء الربانين كانوا ولا يزالون يتحدثون عن أهمية الإخلاص وضرورته، ويؤكدون أنه الروح التي يجب أن تسري في جميع الطاعات والأعمال التي يفترض أن يٌتقرَّب بها إلى الله، فإن غابت هذه الروح، عادت الأعمال كلها أشباحاً لا قيمة لها، وركاماً لحطام لا فائدة منه.

ونحن إنما نسلك مسلك هؤلاء العلماء، فنذكر بضرورة الإخلاص لله تعالى، دون اتهام ونحذر من عواقب استخدام الطاعات والقربات للمغانم والرغائب الدنيوية، دون أن ندعي أن فينا من يفعل ذلك. ونقول: لأن الذي يجعل من الشعارات الإسلامية الكثيرة، ومن مظاهر أنشطته المتنوعة الوفيرة، ما يشبه في خمودها، وجمودها وعدم جدواها، المدينة المسحورة، إنما هو غياب سرّ الإخلاص عنها، نقول ذلك، دون أن نشير بأي من أصابع الاتهام إلى أحد، كي لا تهتاج الحساسية النفسية بين جوانح أي منا، فيندفع إلى ردّ هذه التهمة عن نفسه، موهماً أن التوجه بمثل هذه التذكرة يدخل في باب النصيحة المتعالية، والإرشاد الذي لا مجال ولا معنى له بين الأنداد في مثل هذا المقام. وقد اهتاجت هذه الحساسية في لقاء مماثل يوماً ما، من قبل.

وعلى كلٍ فإن مما لا ريب فيه، أن وجود الإخلاص لله تعالى في المقصد الاعتقادي، وفي المناهج السلوكية، يقطع السبيل على العصبيات المذهبية، ويبعد الخلافات الاجتهادية التي لا مندوحة عنها من الآفات المتنوعة التي قد تتسرب إليها، وإن مما لا ريب فيه أيضاً إنه إن لم يتحقق هذا المنطلق الأساسي الذي لا بّد منه، فإن الالتزام ببقية خطوات المنهج الذي نتحدث عنه يغدو أمراً عسيراً، وإن تيسر تحقيقها فلن تجدي شيئاً ولن تحقق شيئاً من أهدافها.

النقطة الثانية: الاحتكام إلى قاعدة إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.

ومن المعلوم أن هذا الكلام قبل أن يصبح قاعدة شرعية ثابتة لها أثرها في مجال الرأي والاجتهاد، حديث نبوي صحيح متفق عليه. ولفظه فيما اتفق عليه الشيخان وأحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمر بن العاص: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأجتهد فأخطأ فله أجر واحد).

ومن المعلوم أيضاً أن خصوصية الحاكم هنا ساقطة عن الاعتبار، كما قال العلماء أي ليس لها مفهوم مخالف، إذ الملاحظ في الحاكم هنا وضعه الاجتهادي، وهو ينطبق على حال كل مجتهد.

إن الذي ندركه من مدلول هذا الحديث النبوي الذي غدا قاعدة ذات أثر كبير في أمور العقيدة والقضايا الفقهية والعلاقات الأخلاقية، أن سائر الخلافات المذهبية التي تبرز داخل دائرة العقائد الإسلامية الجامعة أو الفروع الفقهية، بدافع من الإخلاص لوجه الله عز وجل، تظل مكلوءة بنعمة الرضا من الله تعالى، وعائدة بالأجر الوفير منه عز وجل، ما دامت المسائل التي وقع الخلاف فيها اجتهادية، وما دام أئمة هذه المذاهب يتمتعون بمزية ويرتؤون.

غير أن الآفة التي تتربص بهذه القاعدة، العصبية التي يحتكر بموجبها صاحب المذهب وجه الحق في المسألة الخلافية، لما قد هداه إليه رأيه الاجتهادي دون غيره، فيسفه سائر الآراء الاجتهادية الأخرى في تلك المسألة، ويلغي بذلك القاعدة النبوية التي فسحت المجال، بإخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمام سائر المجتهدين الذين فرقتهم اجتهاداتهم من تلك المسألة في طرائق متعددة، لبلوغ الرضا والأجر من الله عز وجل.

وسبيل التخلص من هذه الآفة، أن نعود إلى المسألة الخلافية فنتذكر أو نؤكد أنها من المسائل الاجتهادية، التي لا يمكن أن يتعرض العلماء المختلفون بشأنها لأي فسوق أو ضلال أو كفر، من جراء اختلافهم فيها.. فإن تذكرنا وأكدنا ذلك، سلكنا الاجتهاد فيها سبيل العبد الذي لا يبتغي بعمله إلا الوصول إلى مرضاة الله، موقنين أن إخواننا الآخرين الذين يتمتعون بالمزية الاجتهادية ذاتها، يسلكون في اجتهاداتهم السبيل ذاته، ويتبعون الغاية ذاتها. فأنى للعصبية عندئذ أن تجد سبيلها إلى هؤلاء الإخوة الذين جمعهم السعي إلى مرضاة الله، وأنى لوساوس الشيطان أن تثبت في ذهن كل منهم بأن الحق في تلك المسألة ليس إلا ما قد هٌدي هو إليه ..؟

وعى الرغم من أن هذا السبيل للتخلص من هذه الآفة ميسر ومفتوح، فإنها كثيراً ما تفعل فعلها الممقوت في تقطيع صلة القربى بين الإخوة المجتهدين، ولا ريب أن مرد ذلك في الغالب إلى العصبية للرأي، بل للذات.

وعلى سبيل المثال: إن مقتضى هذا السبيل، أن لا يٌستجرَّ أتباع مذهب إسلامي أياً كان إلى مذهب آخر, فلا يستجر شيعي ليصبح سنياً، ولا العكس، ولا يفتن زيدي عن زيديته ولا أباضي عن أباضيته.

ولكن ما أكثر ما تٌنسي العصبية للرأي وللذات أصحابه هذه الحقيقة، ففي شمال سورية وفي جنوبها مثلاً أناس حملوا على التشيع بوسائل شتى. ترى هل حصل العكس أيضاً؟ لقد تتبعت وبحثت، فلم أعثر بحمد الله على أثر لذلك.

وفي أتباع المذاهب الفقهية اليوم، من تحرفهم هذه العصبية ذاتها، فينسون أو يتناسون أن أئمة هذه المذاهب أدَّوْا في اجتهاداتهم الفقهية التي انتهوا إليها ضريبة العبودية لله، سواء فيما اتفقوا عليه من ذلك أو فيما اختلفوا فيه. فكان لعامة المسلمين من بعدهم أن يتبعوا من شاؤوا منهم معذورين ومأجورين.

أجل، إن في أتباع بعض المذاهب الفقهية من يتناسون هذه الحقيقة، فلا يقرون إلا بالمذهب الذي طاب لهم أن يتبعوه، ولا يشكون في أن من خالف مذهبهم ذاك، فقد خالف وتحلل من ربقته.
وعلى سبيل المثال: تارك الصلاة كسلاً مرتّد خارج عن الملة تترتب عليه سائر أحكام الردة، أخذاً بما ذهب إليه الإمام أحمد في أحد الروايتين عنه، أما ما رآه الشافعية والمالكية والحنفية، من الرأي المخالف فباطل مردود وملغي عن الاعتبار..! واستئصال اللحية معصية محرمة يلاحق بها كل متورط في هذا الجرم الشنيع، ولا قيمة لرأي من يرى أن إطلاقها سنة مؤكدة كالشافعية، وكثير من الحنفية..! ومن نكح مطلقة بائنة بينونة كبرى، نكاحاً صحيحاً وافي الشروط والأركان، قاصداً التسبب بذلك إلى أن تعود فتحل لزوجها، طبقاً لما نص عليه البيان القرآني، متورط من عمله ذاك في الزنا، وأنه المعني بالتيس المستعار، الإمام أحمد ذهب إلى أن النكاح بهذا القصد باطل، لأنه صرف النكاح بذلك عما شرع من أجله وهو الدوام والإعفاف. أما ما يراه الشافعية والحنفية من أنه نكاح صحيح، تحل به الزوجة لزوجها الأول بعد الطلاق، وأن ذلك يدخل في إطلاق قوله تعالى: (حَتَّى تَنكِحَ زَوجاً غَيرَهٌ) فلا يلتفت إليه..!

ومما يبرز وجه العصبية الممقوتة، لدى أصحاب هذا النهج، أنهم يعلمون أن الحنابلة والمالكية يقولون بصحة زواج من عزم أثناء عقد النكاح بقلبه على أن يطلق زوجته بعد ثلاثة أشهر مثلاً، ويقول بصحة بيع من باع داراً لشخص خوفاً من تسلطٍ ظالمٍ عليه، متفقاً معه على أن يستعيدها منه عند زوال الخطر، وبصحة عقد من اشترى متاعاً قاصداً أن يستعمله في محرّم، مع ما هو واضح من أن هذه العقود قد قٌصد بها غير ما قد شرعها الله لأجله، ثم يعلنون النكير على الأئمة الذين يقولون بصحة عقد نكاح من نكح بائنة نكاحاً شرعياً وافي الشروط والأركان، لأنه لم يقصد بذلك الإعفاف، وإنما قصد الزوجة البائنة عوداً شرعياً سليماً إلى زوجها الأول.

وكم قادت هذه العصبية إلى شقاق وخصام، وكم دعت أصحابها إلى وصف مخالفيهم من أتباع المذاهب الأخرى بالضلال والابتداع، فتمزقت من جراء ذلك فيما بينهم مشاعر الأخوة الإسلامية، بدلاً من أن تزداد - استجابة لأمر الله - قوة ورسوخاً..!

النقطة الثالثة: ضرورة مزيد من الاهتمام بدراسة الفقه المقارن، من حيث العمق العلمي والاتساع الشمولي:

إن دراسة الفقه المقارن تعني دراسة أسباب الخلاف بين أئمة الشريعة الإسلامية، ولا ريب أنها إن أوليت العناية التامة، ودرست دراسة علمية معمقة، تشمل أكثر أبواب الفقه، تحقق فوائد وآثاراً إيجابية شتى، من أهمها أنها تكشف عن قوة المدرك العلمي، الذي استند إليه كلاً من الأئمة الذين اختلفوا في بعض المسائل والأحكام الفقهية، ومن ثم فإن المستعرض لدليل كل منهم يدرك أنهم جميعاً على حق، أي أن كلاً منهم اعتمد فيما انتهى إليه، على حجة قوية دامغة من وجهة نظره، على أقل تقدير، وبذلك يكون قد أعذر أمام الله عز وجل، وإنها لأفضل طريقة علمية وتربوية للقضاء على أسباب العصبية للمذهب.

ولكني ألاحظ - ويا للأسف - أن الإخوة الذين يجنحون إلى ركن ركين من العصبية المذهبية وأكثرهم حنابلة من سكان الجزيرة العربية - لا يقيمون وزناً لهذا المقرر العلمي الهام ولا يعيرونه أي التفاتة، وكيف يلتفون إلى ما لا وجود له في اعتبارهم، أو إلى ما لا قيمة له في تصورهم ..!

إنني بمقدار ما أدعو عوام الناس إلى التقيد بمذهب ما من المذاهب الفقهية المدونة، أحذرهم وأحذر مرشديهم من التعصب للمذهب الواحد. ذلك التعصب الذي من شأنه أن ينسخ المذاهب الفقهية كلها بالمذهب الواحد، وأن يسفه القائمين بواجباتهم الاجتهادية التي كلفهم الله بها، وأن يهدد المثوبة التي بشرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء لمن أصاب منهم الحق أو لمن تنكب عنه.

إن خير ما يقضي على هذا التعصب، ويقضي على شرته، بعد الإخلاص لوجه الله، الاطلاع على أسباب الخلاف بين المذاهب، وقد أفاض في بيان هذه الفائدة وأجاد العالم الجليل: الإمام الشاطبي في كتابه "الموافقات" والشاه ولي الله الهلوي في كتابه "حجة الله البالغة".

النقطة الرابعة والأخيرة: ضرورة التنبه إلى أخطر الأسلحة التي يحارب بها الوجود الإسلامي في بلاد الشام.

إنه يتمثل في سلاح واحد لا ثاني له، ألا وهو سلاح القضاء على البقية الباقية من وحدة الأمة الاسلامية، والجسور الاعتقادية، الواصلة ما بين فئاتها وأفرادها.

ولقد كان هذا السلاح خفياً، فيما مضى، على الرغم من شدة اعتماد محترفي الغزو الفكري عليه، ولكنه غدا بيناً مكشوفاً في هذه السنوات الأخيرة، فلقد أخذت سلسلة الوثائق الشاهدة على ذلك تظهر وتتوالى دون أي اسخفاء أو تحفظ من أصحابها والمنفذين لوصاياها.

فمن ذلك التقرير الصادر عام 1991 من مجلس الأمن القومي الأمريكي، فقد تضمن شطره الأول بيان خطورة الإسلام على الحضارة الغربية بشطريها، الأوروبي والأمريكي، وتضمن شطره الثاني البنود التي يجب أن تنفذ للقضاء عليه في مهده، وتجفيف معينه.

أول هذه البنود: إثارة التناقض في مضمون الأفكار والعقائد الإسلامية..! على حد تعبير التقرير،

ثانيهما: تأليب المسلمين بعضهم على بعض..!

ثالثهما: تحويل العمالة الإسلامية في دول الخليج العربي، إلى عمالة آسيوية...إلخ.

ومن ذلك التقرير الذي رفعه "وليم كليفورد"، مبعوث هيئة الأمم المتحدة، مراقباً، إلى سلسلة المؤتمرات التي عقدتها الجامعة العربية في أواخر السبعينات، من القرن الماضي، للدفاع الاجتماعي ضد الجريمة، إلى هيئة الأمم المتحدة، وإلى المؤسسات الخفية المعنية بشأن الإسلام ومراقبة سيره وأنشطة قادته ورجاله. وهو أخطر ما وقع في يدي في تقرير يتحدث عن خطر الإسلام على الغرب، ويضع المنهج الأمثل لتفتيته والقضاء على البقية الباقية من وحدة رجاله وقوتهم وغناهم, أسباب تماسكهم وتنامي معتقداتهم.

ومن ذلك المقال الذي نشرته مجلة foreign Affairs، لسان حال وزارة الخارجية الأمريكية في عدد تشرين الثاني من عام 1992، عن خطر الإسلام، وضرورة القضاء عليه، وأفضل الطرق إلى ذلك، وهو تقطيع جسور التواصل والتضامن بين الدول العربية التي هي المصدر الأول للخطر الإسلامي، ثم العمل على إيجاد أكبر قدر من التشاكس بين شعوب المنطقة وحكامها، بحيث يسودها القلق والاضطراب، وتنأى عن الهدوء والاستقرار.

إذن، فالمسلم اليوم، على ضوء هذه الحقيقة، لا يعدو أن يكون أحد رجلين:

صادق مع الله في إسلامه، إذن فلابّد أن يسعى سعيه جهد استطاعته على سد الثغرات المصطنعة بين فئات المسلمين ومذاهبهم، ومدّ المزيد من جسور التآلف والتضامن والتعاون فيما بينهم.

أو متبرم بإسلامه كاذب بانتمائه إليه، فما أيسر أن يكون هذا وأمثاله، جنوداً وجهوداً مجهولين أو معلومين للساهرين على وضع المخططات المتتالية للقضاء على الإسلام وأهله، ينفذون خططهم، ويبعثون المزيد من أسباب الشقاق فيما بينهم، ويوقظون عوامل الفتنة فيما بينهم، لأتفه الأسباب التي كان المسلمون من سلفنا الصالح يغمضون العين عنها، ويجعلونها فداء لوحدة الأمة وجمع شملها وشدّ آصار ما بينها.

فاللهم اجعلنا وقومنا، من المسلمين الصادقين معك والمخلصين لك، ولا تجعلنا من الذين يخادعونك في دينك، ويمتطون من لإسلامهم مطية ذلولاً إلى عصبياتهم ومصالحهم.

والحمد لله رب العالمين.



Share
* الاسم:
* البرید الکترونی:
* نص الرأی :
* رقم السری:
  

أحدث العناوین
الاکثر مناقشة
الاکثر مشاهدة