2024 March 29 - 19 رمضان 1445
السلفية المعاصرة وأثرها في تشتيت المسلمين
رقم المطلب: ١٧٢ تاریخ النشر: ٢٦ جمادی الثانی ١٤٣٧ - ١٨:٤٨ عدد المشاهدة: 4411
فتنة الوهابیة » عام
جدید
السلفية المعاصرة وأثرها في تشتيت المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين وعلى من اهتدى بهدية واتبع سنته من آله وصحبه والتابعين وتابعي التابعين إلى يوم الدين، وبعد:

اللهم ألهمنا رشدنا، وأرشدنا بهداك ولطفك إلى الصراط المستقيم، صراط الحق القويم، وأحسن خاتمتنا يا ربَّ العالمين.

تمهيد :

لقد أنزل الله تعالى هذا الدين القويم، دين الإسلام، على أفضل خلقه إليه سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين، وجعله خاتم الأنبياء والرسل، وجعله شاهدا على أمته، وجعل أمته شهداء على غيرهم من الأمم.

قال الله تعالى:

(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)

قال الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير (18/61):

اعلم أنه تعالى بين أنه ما أهلك أهل القرى إلا بظلم وفيه وجوه :

الوجه الأول: أن المراد من الظلم ههنا الشرك قال تعالى: (إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).     والمعنى أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم.

والحاصل أن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر، بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساءوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم، ولهذا قال الفقهاء إن حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح.

ويقال في الأثر: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم فمعنى الآية (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ). أي لا يهلكهم بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعامل بعضهم بعضاً على الصلاح والسداد.

وهذا تأويل أهل السنة لهذه الآية قالوا والدليل عليه أن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب إنما نزل عليهم عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق.

والوجه الثاني: في التأويل وهو الذي تختاره المعتزلة هو أنه تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لما كان متعالياً عن الظلم فلا جرم لا يفعل ذلك بل إنما يهلكهم لأجل سوء أفعالهم.

ثم قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً). والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار وقد سبق الكلام عليه.

ثم قال تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ). والمراد افتراق الناس في الأديان والأخلاق والأفعال.

واعلم أنه لا سبيل إلى استقصاء مذاهب العالم في هذا الموضع ومن أراد ذلك فليطالع كتابنا الذي سميناه   بالرياض المونقة   إلا أنا نذكر ههنا تقسيماً جامعاً للمذاهب فنقول: الناس فريقان منهم من أقر بالعلوم الحسية كعلمنا بأن النار حارة والشمس مضيئة والعلوم البديهية كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ومنهم من أنكرهما والمنكرون هم السفسطائية والمقرون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم وهم فريقان منهم من سلم أنه يمكن تركيب تلك العلوم البديهية بحيث يستنتج منها نتائج علمية نظرية ومنهم من أنكره وهم الذين ينكرون أيضاً النظر إلى العلوم وهم قليلون والأولون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم وهم فريقان منهم من لا يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلاً وهم الأقلون ومنهم من يثبت له مبدأ وهؤلاء فريقان منهم من يقول ذلك المبدأ موجب بالذات وهم جمهور الفلاسفة في هذا الزمان ومنهم من يقول إنه فاعل مختار وهم أكثر أهل العالم ثم هؤلاء فريقان منهم من يقول إنه ما أرسل رسولاً إلى العباد ومنهم من يقول إنه أرسل الرسول فالأولون هم البراهمة

والقسم الثاني: أرباب الشرائع والأديان وهم المسلمون والنصارى واليهود والمجوس وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا حدَّ لها ولا حصر والعقول مضطربة والمطالب غامضة ومنازعات الوهم والخيال غير منقطعة ولما حسن من بقراط أن يقول في صناعة الطب العمر قصير والصناعة طويلة والقضاء عسر والتجربة خطر فلأن يحسن ذكره في هذه المطالب العالية والمباحث الغامضة كان ذلك أولى فإن قيل إنكم حملتم قوله تعالى: ( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ). على الاختلاف في الأديان فما الدليل عليه ولم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال.

قلنا الدليل عليه أن ما قبل هذه الآية هو قوله: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً). فيجب حمل هذا الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمة واحدة وما بعد هذه الآية هو قوله: (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ). فيجب حمل هذا الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه قوله: (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ). وذلك ليس إلا ما قلنا

ثم قال تعالى: (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ). احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى وذلك لأن هذه الآية تدل على أن زوال الاختلاف في الدين لا يحصل إلا لمن خصه الله برحمته وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العذر فإن كل ذلك حاصل في حق الكفار فلم يبق إلا أن يقال تلك الرحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة قال القاضي معناه إلا من رحم ربك بأن يصير من أهل الجنة والثواب فيرحمه الله بالثواب ويحتمل إلا من رحمة الله بألطافه فصار مؤمناً بألطافه وتسهيله وهذان الجوابان في غاية الضعف.

أما الأول؛ فلأن قوله: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ). يفيد أن ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة فوجب أن تكون هذه الرحمة جارية مجرى السبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف والثواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف فالاختلاف جار مجرى المسبب له ومجرى المعلول فحمل هذه الرحمة على الثواب بعيد

وأما الثاني؛ وهو حمل هذه الرحمة على الألطاف فنقول جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضاً في حق الكافر وهذه الرحمة أمر مختص به المؤمن فوجب أن يكون شيئاً زائداً على تلك الألطاف وأيضاً فحصول تلك الألطاف هل يوجب رجحان وجود الإيمان على عدمه أو لا يوجبه فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان فلم يك لطفاً فيه وإن أوجب الرجحان فقد بينا في الكتب العقلية   أنه متى حصل الرجحان فقد وجب وحينئذ يكون حصول الإيمان من الله ومما يدل على أن حصول الإيمان لا يكون إلا بخلق الله أنه ما لم يتميز الإيمان عن الكفر والعلم عن الجهل امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم وإنما يحصل هذا الامتياز إذا علم كون أحد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد وكون الآخر ليس كذلك وإنما يصح حصول هذا العلم أن لو عرف أن ذلك المعتقد في نفسه كيف يكون وهذا يوجب أنه لا يصح من العبد القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محال فثبت أن زوال الاختلاف في الدين وحصول العلم والهداية لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وهو المطلوب؛

ثم قال تعالى: (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ). وفيه ثلاثة أقوال:

القول الأول: قال ابن عباس وللرحمة خلقهم وهذا اختيار جمهور المعتزلة قالوا ولا يجوز أن يقال وللاختلاف خلقهم ويدل عليه وجوه الأول أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما وأقرب المذكورين ههنا هو الرحمة والاختلاف أبعدهما والثاني أنه تعالى لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك الإيمان لكان أن يعذبهم لا يجوز عليه إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف الثالث إذا فسرنا الآية بهذا المعنى كان مطابقاً لقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ). فإن قيل لو كان المراد وللرحمة خلقهم لقال ولتلك خلقهم ولم يقل ولذلك خلقهم قلنا إن تأنيث الرحمة ليس تأنيثاً حقيقياً فكان محمولاً على الفضل والغفران كقوله: (هَاذَا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى)، وقوله: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا).    

والقول الثاني: أن المراد وللاختلاف خلقهم.

والقول الثالث: وهو المختار أنه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا وأهل العذاب لأن يختلفوا وخلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلق النار وخلق لها أهلاً والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه الأول الدلائل القاطعة الدالة على أن العلم والجهل لا يمكن حصولهما في العبد إلا بتخليق الله تعالى الثاني أن يقال إنه تعالى لما حكم على البعض بكونهم مختلفين وعلى الآخرين بأنهم من أهل الرحمة وعلم ذلك امتنع انقلاب ذلك وإلا لزم انقلاب العلم جهلاً وهو محال الثالث أنه تعالى قال بعده: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). "وهذا تصريح بأنه تعالى خلق أقواماً للهداية والجنة وأقواماً آخرين للضلالة والنار وذلك يقوي هذا التأويل"اهـ

وقال ابن عطية في المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/215)

(وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً).

المعنى لجعلهم أمة واحدة مؤمنة قاله قتادة حتى لا يقع منهم كفر ولا تنزل بهم مثلة ولكنه عز وجل لم يشأ ذلك فهم لا يزالون مختلفين في الأديان والآراء والملل هذا تأويل الجمهور.

قال الحسن وعطاء ومجاهد وغيرهم: المرحومون المستثنون هم المؤمنون ليس عندهم اختلاف.

وقالت فرقة لا يزالون مختلفين في السعادة والشقاوة وهذا قريب المعنى من الأول إذ هي ثمرة الأديان والإختلاف فيها ويكون الإختلاف على هذا التأويل يدخل فيه المؤمنون إذ هم مخالفون للكفرة وقال الحسن أيضا لا يزالون مختلفين في الغنى والفقر.

قال القاضي أبو محمد: وهذا قول بعيد معناه من معنى الآية ثم استثنى الله تعالى من الضمير في يزالون من رحمه من الناس بأن هداه إلى الإيمان ووفقه له.

"هود   119   إلا من رحم"

وقوله: (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ). اختلف فيه المتأولون فقالت فرقة: ولشهود اليوم المشهود المتقدم ذكره خلقهم وقالت فرقة ذلك إشارة إلى قوله قبل فمنهم شقي وسعيد أي لهذا خلقهم.

قال القاضي أبو محمد: وهذان المعنيان وإن صحا فهذا العود المتباعد ليس بجيد وروى أشهب عن مالك أنه قال ذلك إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير.

قال القاضي أبو محمد: فجاءت الإشارة بذلك إلى الأمرين الإختلاف والرحمة وقد قاله ابن عباس واختاره الطبري ويجيء عليه الضمير في خلقهم للصنفين، وقال مجاهد وقتادة: ذلك عائد على الرحمة التي تضمنها قوله إلا من رحم أي وللرحمة خلق المرحومين. قال الحسن: وذلك إشارة إلى الإختلاف الذي في قوله ولا يزالون مختلفين.

قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا بأن يقال كيف خلقهم للإختلاف وهل معنى الإختلاف هو المقصود بخلقهم فالوجه في الانفصال أن نقول إن قاعدة الشرع أن الله عز وجل خلق خلقا للسعادة وخلقا للشقاوة ثم يسر كلا لما خلق له وهذا نص في الحديث الصحيح وجعل بعد ذلك الإختلاف في الدين على الحق هو إمارة الشقاوة وبه علق العقاب فيصح أن يحمل قوله هنا وللاختلاف خلقهم أي لثمرة الإختلاف وما يكون عنه من الشقاوة.

ويصح أن يجعل اللام في قوله ولذلك لام الصيرورة أي وخلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك وإن لم يقصد بهم الاختلاف.

قال القاضي أبو محمد: ومعنى قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ). أي لآمرهم بالعبادة وأوجبها عليهم فعبر عن ذلك بثمرة الأمر ومقتضاه.

وقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ). أي نفذ قضاؤه وحق أمره واللام في (لاَمْلاَنَّ) لام قسم إذ الكلمة تتضمن القسم.

والجن جمع لا واحد له من لفظه وهو من أجن إذا ستر والهاء في بالجنة للمبالغة

وإن كان الجن يقع على الواحد فالجنة جمعه.

وقال العلامة أبو السعود في تفسير أبي السعود (4/248)

(وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً).

مجتمعة على الحق ودين الإسلام بحيث لا يكاد يختلف فيه أحد ولكن لم يشأ ذلك فلم يكونوا متفقين على الحق "ولا يزالون مختلفين" في الحق أي مخالفين له كقوله تعالى: (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم).

(إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ)؛ إلا قوما قد هداهم الله تعالى بفضله إلى الحق فاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه أي لم يخالفوه وحمله على مطلق الإختلاف الشامل لما يصدر من المحق والمبطل يأباه الإستثناء المذكور   ولذلك   أي ولما ذكر من الإختلاف خلقهم أي الذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون فاللام للعاقبة أو للترحم فالضمير لمن واللام في معناها أولهما معا فالضمير للناس كافة واللام بمعنى مجازي عام لكلا المعنيين وتمت كلمة ربك أي وعيده أو قوله للملائكة   لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين   أي من عصاتهما أجمعين أو منهما أجمعين لا من أحدهما. اهـ

وقال الله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يَلبِسَكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض، انظر كيف نصرِّفُ الآيات لعلهم يفقهون)الأنعام 65.

وروى الإمام مسلم في صحيحه؛ عن عَامِرُ بن سَعْدٍ عن أبيه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ من الْعَالِيَةِ حتى إذا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دخل فَرَكَعَ فيه رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا معه وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فقال صلى الله عليه وسلم: (سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا).

نستنتج من هذا كله أن الأمة الإسلامية يكون فيها التفرق في الآراء والمذاهب والأقوال، وأن هذا امتحان من الله تعالى. فعلى الناس أن يحسنوا التصرف في مثل هذه الحال.

 

المقدمة

إن مصطلح "الأمة الإسلامية" يندرج تحته كل الناس الذين ينتمون إلى الإسلام، ولم يخرجوا عنه باعتقاد أمر يلزم عنه الكفر، بحيث يكونون قد آمنوا بما علم بالضرورة أنه من الدين حكما اعتقاديا كالإيمان بوجود الله تعالى وكونه قادرا، وبنبوة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وكونه خاتما للأنبياء والرسل، وكون شريعته ناسخة لما سبقها من الشرائع سواء سُلِّمَ لنا أنها محرفة أم لم يُسَلَّم ذلك، أو عمليا كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من الأحكام الشرعية العملية الثابتة ثبوتا لا يقبل الاجتهاد بوجه.

وقد حصل اختلاف في الأمة الإسلامية، في مستوى العقيدة وفي مستوى الفقه، أي في بعض الأحكام العقائدية، وفي الأحكام الفقهية العملية.

ومن المعلوم أن الأحكام العقائدية منها ما هو ضروري يكفر مخالفه، ومنها ما هو قطعي نظري يبتدع المخالف فيه وقد يكفره البعض، ومنها ما هو ظني نظري لا يبتدع المخالف فيه.

وقد جاء في الحديث أن الأمة الإسلامية تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وأنا أعلم أن العديد من الناس يخالفون في صحة هذا الحديث من حيث السند، ولكنا نعلم أيضا أن المقصود من العدد ليس بالضرورة هو عين المفهوم اللقبي له، أعني أن ليس المقصود بالضرورة أنَّ الافتراق سيتزايد حتى يصل إلى العدد المذكور، مع أنه إن كان كذلك فلا يترتب إشكال مطلقا.

وقد اعتمد بعض الناس على فكرة أن الاختلاف هو في حد ذاته مفسدة، وانحطاط، فإن قيل إن الأمة الإسلامية ، وهي أمة النبي عليه الصلاة والسلام تفترق فرقا أكثر عددا من اليهود والنصارى، فكيف يقال بخيرية هذه الأمة على من عداها من الأمم؟؟

وهذا السؤال قد يبدو وجيها، لأول وهلة، إلا أننا لا نسلم مطلقا بأن الاختلاف مذمة مطلقا، وأن الاختلاف يستلزم انحطاط شأن هذه الأمة عن غيرها من الأمم.

وإن سلمنا نزول مرتبة الاختلاف في بعض الحالات عن مرتبة الاجتماع والتوافق، فإننا لا نسلم أن كل صور الاختلاف مستلزمة الانحطاط المدَّعى، فإن أمة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وإن سلمنا تفرقها فرقا أكثر من فرق اليهود ومن فرق النصارى، إلا أن هذا الافتراق في أمة النبي عليه الصلاة والسلام، لم يستلزم نزول حالها على سبيل العموم، لأنه مع هذا الافتراق، فإن فرقة أهل الحق، وهي فرقة أهل السنة والجماعة لم تزل هي الغالبة على مرِّ العصور والأزمان، ولم يزل عدد العلماء العاملين منها أكثر بكثير من أعداد العلماء من سائر الفرق مجتمعة، بخلاف التفرق الحاصل في اليهود والنصارى، فإنهم كانوا فرقا متساوية أو متكافئة، مما استلزم الضعف في تلك الأمم، بخلاف الأمر في أمة الإسلام. فإن كون أهل السنة والجماعة الأكثر عددا، والأوفر علماء على مرِّ العصور، وفي مختلف الأمكنة، لم يؤثر وجود فرق أخرى بجانبها وإن كثر عددها كما أثر في غيرها من الأمم.

أي إن الأثر السلبي الحاصل من التفرق في الأمم الأخرى، لم يحصل بالصورة نفسها في الأمة الإسلامية.

ومهما خالف المخالفون في هذا الحديث، ومهما شككوا في سنده، فإن الواقع يثبت أن الأمة قد اختلفت بالفعل ، فلم يبق بعد حصول الاختلاف فائدة في أن نقول لا يصح الاستناد إلى الحديث لأنه ضعيف أو لأن في سنده إشكالات.

فالحس والواقع يثبت قدرا كبيرا من دلالة الحديث إذن.

والحاصل من هذا كله أن التفرق كائن في هذه الأمة، والاختلاف حاصل فيها، كما هو في غيرها.

والمهم المقصود عند علماء الإسلام والعديد من المفكرين في هذه الجهات، هو في العلاقة بين التعايش والتعاون بين المسلمين في ظل وجود هذا الاختلاف؟ ما موقفهم منه.

وأنا وإن كنت سأتكلم باختصار حول هذا المعنى، في نهاية كلمتي هذه، إلا أنني أحببت أن ألفت أنظاركم الكريمة إليها ههنا، لما لهذا الالتفات من أهمية في موضوعنا الرئيس.

ولا يخفى على حضراتكم أن الاختلاف حصل منذ العصور الأولى، أي منذ عصور الصحابة والتابعين، فالخوارج، وبدايات التشيع، والقدرية القدماء، وغيرهم، برزوا في الأمة الإسلامية منذ العصور الأولى الموصوفة بالخيرية، بل إن العديد من الفرق التي كانت موجودة في تلك العصور، لم تعد موجودة في عصورنا هذه ولا في العصور التي قبل عصرنا، وهذا مما يدلُّ على عدم التلازم المدَّعى بين الاختلاف فرقا، وبين الانحطاط، كيف يقال ذلك؟! وقد شهد النبي عليه الصلاة والسلام بالخيرية للعصور الأولى.

وكل هذه الفرق التي أشرنا إليها، إنما أصبحت فرقا، لأنها فارقت أهل السنة والجماعة، أهل الحق، وإنما حصل الاختلاف لأنهم خالفوا أهل الحق. فلذلك فقد تميزت كل فرقة عن أهل السنة بأفكار ومبادئ معينة، وبقيت أهل السنة متميزة بأصل الانتماء إلى الإسلام، ولم يرَ العلماء من أهل السنة ضرورة لإعلان تميزهم عن غيرهم، أو تميز غيرهم عنهم، إلا بعد عشرات السنين، لما اشتد عود المخالفين، ونصبوا الخلاف مع أهل السنة، وصاروا يغالون ويدعون أنهم أهل الحق دون غيرهم. فلما لاحظ أهل السنة والجماعة ذلك من المخالفين، تصدى العلماء منهم والمحققون إلى التأليف والتفريق بين الحق والباطل، وربما كان هذا أحد أكبر الأسباب في إمكان تميز المعتزلي والشيعي والخارجي والقدري بعلامات خاصة لكل واحد منهم، بينما يعتبر من ليس من هذه الفرق باقيا على الأصل القديم، وهو أصل أهل السنة والجماعة.

 

أصل فكرة السلف والخلف:

سوف نوضح مفهوم السلف والخلف عند علمائنا المعتبرين وعند المخالفين من الوهابية وغيرهم ممن وافقهم. لنبين الأصول الكلية التي تنبني عليها هذه الفكرة، وهذا سيكون بمنزلة القواعد المؤسسة لدراسة أثر الوهابية والمتابعين لابن تيمية لانبناء فكرتهم في جهة كبيرة على هذا المفهوم.

 

أولا: السلف والخلف عند علمائنا؛

من المعلوم لدى حضراتكم أيها السادة الأفاضل والعلماء الأكارم، أن هناك في تاريخنا العلمي فكرة السلف والخلف، وكان مفهوم السلف والخلف مفهوما زمانيا فقط، وليس مفهوما فاصلا لماهيات من تقدم عمن تأخر، بحيث يكون من اتسم بأنه ليس من السلف، مكروها، ومن اتسم بأنه من السلف محمودا مطلقا.

وقد كان العلماء المحققون من أهل السنة، عندما يتكلمون بهذا المصطلح، إنما يعنون هذا المعنى أصالة.

وكانوا إذا أطلقوا المدح على السلف، يقصدون من تحقق أنه كان من أهل السنة الموجودين في زمان السلف، الذين تم تحديدهم تحديدا تقريبيا شائعا في القرون الثلاثة الأولى.

فلا يخفى على العلماء الأفاضل أن العديد من الفرق كما ذكرنا كانوا موجودين في زمان السلف بهذا التعريف، فالقدرية ظهروا في عصر الصحابة والتابعين، وكذلك الغلاة من الشيعة، والعديد من فرق المجسمة كان ظهورها مبكرا في التاريخ الإسلامي، ويستحيل أن يقال على كل هؤلاء أنهم كانوا ممدوحين محمودين لمجرد كونهم وجدوا بغير اختيار منهم في زمان متقدم هو القرون الثلاثة الأولى.

ولدقة نظر علمائنا، فقد كانوا يفرقون بين السلف الذين هم من أهل الحق، والسلف الذين كانوا قد نصبوا الخلاف معهم. فمدحهم للسلف مصروف قطعا إلى أهل السنة والجماعة من كان منهم سلفا متقدما في الوجود الزماني، لا إلى غيرهم وإن كانوا سلفا.

وتبعا لهذا الاعتبار، فقد درج العلماء على تسمية من أتى بعد هذه القرون بالخلف، فنشأ لهذا مصطلحا السلف والخلف بهذا الاعتبار.

فصار أهل السنة بعضهم من السلف وبعضهم من الخلف بهذا الاعتبار.

وقد فرق المحققون من العلماء بين السلف والخلف على سبيل العموم، من حيث المنهج من جهة الإجمال، لا من حيث الصواب والباطل.

يعني أن الأكثر من السلف درجوا في معالجة المسائل ومزاولة العلوم على الإجمال إلا في بعض الأحوال، والمسائل، وهذا الحكم ليس كليا، بل أغلبيا. بينما درج الخلف في تناولهم للعلوم ودراستهم للمسائل على سبيل التفصيل والتحقيق والتنقيح، وابتعدوا عن الإجمال كثيرا. وهذا الحكم عليهم ليس حكما كليا بحيث لا يشذ عنه أحد منهم، بل هو حكم أغلبي أكثير أيضا، ما قلنا في شأن حال السلف.

ومن هنا فقد قال العلماء مثلا في مسألة التأويل والتفويض والوصول منهما إلى مذهب التنزيه؛ إن طريقة السلف التفويض، وبعضهم أول، وإن مذهب الخلف التأويل وبعضهم فوض. وكل من التأويل والتفويض طريقة معتبرة معتدٌّ بها عند أهل السنة، المتقدمين والمتأخرين منهم، وهاتان الطريقتان تؤدي كل منهما إلى التنزيه الذي هو المذهب الكلي لأهل الحق.

إذن كل من السلف والخلف عند علمائنا أهل السنة على الحق، وليسوا مخالفين له ولا منحرفين.

فنحن نعتقد إذن باستمرار اتصال الحق بين علماء السلف والخلف من أهل الحق "الأشاعرة والماتريدية"، على عقيدة واحدة، فلم تحصل فترة عندها حصل التقاطع والتدابر بينهما.

 

ثانياً: السلف والخلف عند المخالفين؛

رأينا أن أصل هذه الفكرة عندنا تنبني بناء طبيعيا على التدرج الزماني في الترقي في العلوم والمعارف تفصيلا وإجمالا.

ونحن نقصد بالمخالفين هنا أصالة، الوهابية ممن تبعوا الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وغيرهم بالتبع من العلمانيين كما سنبين.

فلنركز على حقيقة فكرة الوهابية، أو التيمية أي أتباع ابن تيمية، كما أحب أحيانا أن أسميهم.

حاصل ما يقوله هؤلاء: إن السلف كانوا على العقيدة الحق، واستمر الأمر فترة، ثم حصل الانقطاع ، وغلب المبتدعة من سائر الفرق واستمر الأمر حتى هذا الزمان، خلا فترات من الأزمنة برز فيها بعض الدعاة إلى المذهب الذي يعتقدون أنه الحق، ومن أهم هؤلاء الدعاة عند الوهابية ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية اللذان ظهرا في القرن الثامن الهجري.

فلو سألت الوهابية والسلفية المعاصرين، عن سلسلة متصلة زمانيا من العلماء المنتشرين في الأمكنة المختلفة المتغلغلين بين العامة لتعليمهم أمور دينهم، كما ينبغي بأهل الحق الذين أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عنهم بأنهم لا يزالون قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله.

أقول: لو سألتهم أن يأتوك بنحو هذه السلسلة المتراصة من العلماء الهادين إلى الحق، لما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولم يقدروا إلا على تسمية أفراد بعضهم في القرن الثامن وبعضهم في التاسع، وبعضهم في الرابع الهجري، وهكذا، ولن يستطيعوا أيضا أن يبرهنوا على اتصال وجود هؤلاء في المكان والزمان الذي انتشرت فيهما الأمة الإسلامية التي عرفناها في أول حديثنا.

إذن حاصل ما سيأتيك به هؤلاء ما هو إلا مجرد أوصال متقطعة في المكان والزمان، وهذا في نظري من أكبر الأدلة على بطلان ما يدعونه من أفكار وعقائد وأحكام خالفوا فيها أهل السنة والجماعة.

ولذلك فقد حاولوا بشتى السبل أن يبرهنوا على انتساب بعض علماء الأشاعرة إليهم، بحجة أنهم محدثون، أو مفسرون، كالإمام ابن حجر العسقلاني، والإمام النووي، وغيرهما، كالبيهقي وابن عساكر، فاكتشفوا بعد أزمان أن هؤلاء مصرحون وموافقون لعقيدة الأشاعرة، فعادوا وتبرأوا منهم، وربما اكتفى بعض الوهابية بالقول بأن هؤلاء العلماء قد وافقوا الأشاعرة في أمور معينة، وليس في أصول العقائد، وهذه مجرد مزاعم لن يجدوا عليها دليلا. وعللوا موافقة هؤلاء للأشاعرة بأن الأشاعرة كانوا أكثر فتأثر هؤلاء بهم بحكم الصحبة والجوار لا بحكم اعتقادهم بما يقول الأشاعرة، ولم يعلموا أن هذه الطريقة في التأثر والانفعال بالمذاهب، التي ينسبونها إليهم، قادحة في هؤلاء العلماء أصلا لو ثبتت.

إذن تبين لنا أن من حقيقة المذهب الوهابي، اعتقاد الانفصال بين الناس في هذا الزمان وما قبلهم من الأزمنة، بعقيدة السلف، ولذلك فهم لا يعتبرون كثيرا من العلماء ولا يعتدون بآرائهم ولا بمقولاتهم، إلا إن كانوا من أولئك النفر الذين اشرنا إليهم.

تأثير ذلك على العلمانيين، وهذا الفهم المتغلغل في نفوس الوهابية والسلفية المعاصرة، له أكبر الأثر في انفصال الأمة حاضرها عن ماضيها، ولا يخفى ما لهذا الانفصال المعنوي من آثار تضعف الأمة فكريا وعقائديا، وتجعلهم عرضة للهجوم عليهم من المخالفين لهم في أصول الدين، ولا يخفى أن هذا الانفصال لو صح لكان أكبر أمر يعول عليه العلمانيون في القدح بأصل الدين.

وهذا هو ما حصل بالفعل، فقد ظهرت طائفة من العلمانيين القادحين بأصل الدين، ولا يعترفون بأصول أهل السنة والجماعة، وقد قامت معظم اعتراضاتهم على هذه الفكرة، وهي عدم التسليم بالأفهام والأحكام التي صدرت من علماء الأمة على مرِّ العصور، سواء أكانت مذاهب عقائدية أو فقهية أو غيرها، وادعوا أن هذه الآراء كلها مجرد آراء إنسانية لا يلزمهم الأخذ بها، أن عليهم الرجوع إلى النصوص الأصلية في الدين، فيعيدوا قراءتها، وإنتاجها، بحسب ما يرون، وبحسب ما يناسبهم في هذا الزمان.

وبهذا فإنا نرى أن العلمانيين، قد أخذوا بالأصل الذي اعتمده الوهابية، وزادوا عليهم، بأن تجاوزوا السلف أيضا، ورجعوا إلى الكتاب والسنة مباشرة على زعمهم. فأنتجوا ما يسمى في هذا الزمان بالقراءات المعاصرة للتراث، أو للقرآن، أو للتاريخ، وهو عبارة عن تحريفات تذكرنا كثيرا بتحريفات القرامطة والباطنية الأوائل.

 

أقوال من دعاة السلفية المعاصرة

سوف نستشهد ببعض كلمات من أركان دعاة السلفية المعاصرة ، والممهدين لها لنؤكد بها هذا الذي قلناه.

وسوف نأتي بنصوص على سبيل الاستشهاد، وليس مقصودنا ههنا التأريخ لهذه الدعوة، بل سيكون المقصود من الاستشهاد بالنصوص المذكورة مجرد تأكيد وشواهد على ما ذكرناه، وسوف نحاول تحليل بعضها، بما يلائم.

أولاً: محمد بن عبد الوهاب

1- المتكلمون كفار

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب[1]:

فتأملوا رحمكم الله تعالى كيف يصرح بتكفير المتكلمين، ثم ينسب ذلك إلى البيهقي ومن ذكره، وهذه النسبة باطلة كما لا يخفى، فالبيهقي متكلم على طريقة الأشاعرة.

ثم بالغ فيما يقول، وادعى أن الإجماع قد وقع على التكفير؟!

فبهذا يتبين لك الانقطاع الحاصل في الأمة عن علمائها الذي ذكرنا أنه لازم من لوازم مذهب الوهابية.

2- الشيخ محمد بن عبد الوهاب يطلق على الذين يتوسلون أنهم مشركون

قال في رسالته من مجموعة الدرر السنية[2] :

ثم قال:

ثم قال في ص233

3- الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول إن الاعتقاد الذي عند المتأخرين هو عين الشرك

قال في رسالته السابقة[3]

4- تكفير فخر الدين الرازي، وتكفير العين وعدم الاقتصار على تكفير الجنس

ذكر محمد بن عبد الوهاب في الرسالة الحادية والعشرون المودعة في تاريخ نجد ص348 تكفير الإمام فخر الدين الرازي ونقل ذلك عن ابن تيمية وأقره عليه، فقال في ضمن كلام نقله عن ابن تيمية:"وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في الردة كما صنف الفخر الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين"اهـ

فعلق محمد بن عبد الوهاب على كلام ابن تيمية هذا قائلا في ص349:"فانظر كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية وبين ما نحن فيه في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤوسهم: فلانا وفلانا بأعيانهم، وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام مع كونه عند علمائكم من الأئمة الأربعة، هل يناسب هذا لِما فهمتَ من كلامه أن المعين لا يكَفَّرُ."اهـ

وهذا الكلام فيه مغالطات لا تخفى على مطلع

منها حكاية الإجماع على كفر الفخر الرازي.

ومنها ادعاؤهما –ابن تيمية وابن عبد الوهاب- أن الإمام فخر الدين الرازي قد ألف في عبادة الكواكب.

ومنها تصريحه بأن ابن تيمية وكذلك هو يكفرون المعيَّن خلافا لما يزعمه بعض أتباعهما اليوم أنهما لا يكفران إلا الجنس لا المعين.

ونحن كما قدمنا لا نريد أن نستقرئ كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا غيره، ولكن غاية ما نريده إنما هو الاستشهاد ببعض النصوص على الغلو الحاصل في هذا الاتجاه.

وأدعو الله تعال أن يكون المقصود قد حصل مما أوردناه.

5- موقف الوهابية من التجسيم والتشبيه

موقف الوهابية من التجسيم ونفي تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقات، فقد صار مشهورا معلوما، فهم يثبتون لله تعالى الحد والجهة، وقيام الحوادث بالله تعالى، والجلوس على العرش بمماسة والحركة النقلة ....الخ، ولا شك أن هذا الاعتقاد مخالف بجملته لاعتقاد أهل السنة والجماعة، وقد تبع الوهابية في هذا الاعتقاد إمامهم الأول ابن تيمية، فعنه أخذوا كل ذلك، وفهموا كلامه من شروحات تلميذه ابن قيم الجوزية. فليرجع إلى كتاب نقض أساس التقديس، لابن تيمية ومنهاج السنة، وغيرها من الكتب، وقد كتبتُ عدة كتب في هذا المقام أثبتُّ فيها أن ابن تيمية قائل بالتجسيم ولوازمه، وأنه مخالف للأشاعرة جملة وتفصيلا، وأن له مذهبا كاملا يدعو إليه، وليست أقواله هذه مجرد شطحات أو زلات قلم كما يحلو للبعض أن يتوهم[4].

ثانيا: السيد محمد رشيد رضا توفي سنة 1345هـ

في نظري فإن السيد محمد رشيد رضا، من المؤسسين لمذهب السلفية بمعناه الأعم الذي بينا أصوله ومبانيه، وهو قد مهد في كتبه لفكرة الانقطاع عن آثار المتأخرين من العلماء، زاعما أنه مجتهد يحق له الرجوع إلى المصادر الأصلية، والنظر فيها ابتداء كما فعل المجتهدون الكبار، وأنه لا يلزمه إلا اتباع ما يوصله إليه بحثه ونظره. وهو في هذا متأثر بلا شك بشيخه الشيخ محمد عبده، وبالسيد جمال الدين الأفغاني.

وقد صرح رشيد رضا بالعديد من المواقف والآراء التي تثبت هذا الموقف عليه، ونزاعاته مع مشايخ الأزهر وإدارته، معلومة غير مجهولة، ومنها معاركه الشديدة مع الشيخ يوسف الدجوي وصاحبه الشيخ الكوثري ومن يناصرهما.

وها نحن نذكر بعض الدلائل والإشارات الدالة على ذلك.

أولا : تصريحه بموافقة الدعوة الوهابية

وكان مما قاله في كتاب له في غاية الأهمية أسماه المنار والأزهر[5]، يبين ما نشر فيها من مقالات وأفكار

ومن الواضح أن الأسلوب الذي يتحدث به السيد رشيد رضا هو نفسه الأسلوب الذي يتحدث به محمد بن عبد الوهاب، وترى في كلامه هذا العبارات نفسها التي تجدها في كلام الآخر: نحو الخرافيين، عبدة القبور والأضرحة، الشرك الصريح، العقائد الوثنية، البدع الخرافية.....الخ.

وجعل السيد محمد رشيد رضا اهتمامه بهذا الاتجاه من شواهد اهتمام المنار(وهي مجلته التي كان ينشرها) بإصلاح الأزهر، وقد كان له ولشيخه الشيخ محمد عبده اهتمام واضح بما كانا يسميانه إصلاحا للأزهر.

ثانيا: اتهامه الأزهر وبعض مشايخه بأنهم قبوريون يسعون لنشر ذلك بين الناس.

فقال في كتابه المنار والأزهر ص22:"بيد أنني أنكرت على مجلة نور الإسلام الأزهرية الرسمية ما تنشره له –أي الشيخ يوسف الدجوي- من المقالات والفتاوى في تأييد البدع الفاشية في عامة الأمة، ولا سيما بدع القبور ومنكراتها والطعن على السلفية عامة والوهابية خاصة في هذا العصر الذي أظهر في العالم الإسلامي كله في الشرق والغرب والوسط كمصر حرسها الله العطف على الدولة السعودية والدفاع عنها، والانتقاد على الدولة المصرية لعدم اعترافها بها.."اهـ

ومما يدل على ذلك قوله في الكتاب نفسه ص256

ثالثا: ولاؤه لآل سعود:

يعلن السيد رشيد رضا موافقته واتباعه لآل سعود في دعوتهم ويشبههم ببني إسرائيل في أيام سيدنا موسى عليه السلام، ويحضهم على الصبر ويبشرهم بالنصر من عند الله تعالى على أعدائهم القبوريين والمشركين

قال في المنار والأزهر [6]

رابعا: موقفه من دعوة الوهابية ورفض المذاهب المستقرة كالأشاعرة والماتريدية:

من المعلوم أن الشيخ محمد عبده كان هو قدوة السيد محمد رشد رضا، وقد كان هو أول من بادر بالابتعاد عن مذهب الأشاعرة والماتريدية، وادعى أنه مجتهد له أن يختار ما يشاء ولو كان الرأي الذي يرجحه فلسفيا أو اعتزاليا أو غير ذلك.

وهذا الاتجاه كان متأصلا فيهما. فكان مما قاله رشيد رضا[7] :"وأما صاحب المنار فيعلم السادة الحاضرون وكل من يقرأ المنار، أنه لا يقلد في عقيدته أحدا من الأئمة، فكيف يعقل أن يقلد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، على فرض أن له مذهبا خاصا غير مذهب الإمام أحمد وسلف الأمة؟ فمن لا يقلد الإمام الأشعري وقد نشأ على مذهب الأشعرية، فأجدر به أن لا يقلد الشيخ محمد بن عبدالوهاب."اهـ

ولا يخفى أن دعواه عدم تقليد محمد بن عبد الوهاب، لا تنافي موافقته له واتباعه لأفكاره وتأييده لدعوته كما سبق بيانه، غاية الأمر أنه يدعي أنه مجتهد في هذا، والاجتهاد قد يسلم وقد لا يسلم.

وقد كان لهذا الكلام الصادر من في رشيد رضا أصول راسخة عند شيخه الشيخ محمد عبده الذي قال للشيخ عليش لما راجعه في تدريسه للعقائد النسفية، وأنه يخالف الأشاعرة ويرجح مذهب المعتزلةوذلك كما رواه عنه رشيد رضا في كتابه الشهير تاريخ الأستاذ الإمام(1/134):"قال الشيخ عليش: بلغني انك تدرس شرح العقائد النسفية.قال : نعم. قال الشيخ عليش وبلغني أنك رجحت مذهب المعتزلة على مذهب الأشعرية. قال: إذا كنت أترك تقليد الأشعري، فلماذا أقلد المعتزلة؟ إذا أترك تقليد الجميع وآخذ بالدليل. قال الشيخ عليش: أخبرني الثقة بذلك. قال: هلم الثقة الذي يشهد بذلك فليميز أمامنا هنا بين المذهبين وليخبرنا أيهما رجحت."اهـ

ولا يخفى أن أصل دعوى اتباع السلف مبني على ترك اجتهادات العلماء السابقين، وعدم الاعتداد بها، ودعوى أن الواحد، وإن لم يكن متأهلا لذلك، فهو قادر على الاجتهاد، والرجوع للاستنباط من المصادر الرئيسة.

وهذا الاتجاه إن انتشر، فإنه يستلزم الاستخفاف بمنصب الاجتهاد ويشجع كل ضعيف الفهم طامح إلى الرئاسة دعوى الاجتهاد، ولا يخفى ما يترتب على ذلك من بلبلة واختلاط.

خلاصة أثر المذهب السلفي على وحدة المسلمين

نستطيع أن نجمل أهم الملاحظات التي خرجنا بها، في النقاط التالية التي توضح الآثار المترتبة على هذا المذهب

أولا: الانقطاع بين الأجيال المعاصرة وبين أكثر من عشرة قرون بما فيها من العلماء والآثار العلمية الخالدة، والبحوث الدقيقة في مختلف العلوم والفنون، ولا يخفى ما يترتب على هذا الإهمال لجهود الأمة.

ثانيا: إضعاف موقف الأجيال المعاصرة في مواجهتهم للحملات الشديدة المتكالبة على الدين الإسلامي، وذلك لأن انقطاع الأجيال المعاصرة عن علماء الإسلام في القرون السابقة، ومنع استمدادهم منهم واعتمادهم عليهم، يترتب عليه ضعف كبير في المستوى العلمي لدى المعاصرين، وهو ما نراه بأعيننا في العديد من المجالات العلمية.

ثالثا: القطيعة المفتعلة بين الحاضر والماضي، تترتب على القدح في عقائد جماهير علماء الإسلام، وهذا يتولد عنه بلا شك هدم الثقة فيهم، والشك في معارفهم وعلومهم، ومن فقد ماضيه فهو فاقد بلا ريب حاضِرَه ومستقبله.

رابعا: الاندفاع نحو التكفير والتبديع لكل مخالف، تتولد عنه آثار نفسية هائلة، وشكوك عقلية عنيفة في كل ما نقل إلينا عمن سبقنا، وأقل هذه الآثار، الشعور بالعزلة النفسية، التي قد تدفع الضعفاء –وأغلب من يتخذ هذا الموقف منهم- إلى اتباع أساليب عملية هجومية متنطعة، ومتشددة في تعاملهم مع الآخرين.

خامسا: لا ريب في أن هذه الآثار والنتائج إنما لزمت عند القائلين بها، لأنهم أغفلوا التفريق بين القطعيات وبين الظنيات في العقائد والفقه، وجعلوا بعض الظنيات أمورا مقطوعا بها، ولم يؤمنوا ببعض القطعيات، فخالفوها، وهذا كله متولد عن مناهج فكرية يسودها الخلل الكبير.

خاتمة في الموقف من الخلاف وحل الإشكال المترتب عليه:

لا ريب أن علم الكلام هو العلم اللائق ببحث النزاعات بين الفرق الإسلامية ومحاولة معرفة المصيب منها من المخطئ، أو الأكثر صوابا من غيره.

والجدال بين المسلمين في أمور الدين مطلوب شرعا، خلافا لما يعتقده البعض من كونه محرما، وذلك أن الخلاف لا ريب واقع، والعمل على إزالة الخلاف أو تقليله واجب بقدر الطاقة البشرية، ولا يمكن إزالة الخلاف أو محاولة ذلك إلا بالكلام والجدال بالتي هي أحسن. فالكلام في أمور الدين الأصلية، التي تسمى في عرفنا عقائدية، لا شك مطلوب.

وإهمال الخلافات أو محاولة تناسيها والتغافل عنها لا يمكن أن يكون بديلا عن محاول الوصول إلى الأقرب إلى الحق أو إلى الصواب منها. فعدم إمكانية الوصول إلى الاتفاق الشامل بين جميع المسلمين، لا يجوز أن يستلزم التغافل عن وجود الخلاف.

والأصول الكلامية تدل على أن الخلاف لا ريب حاصل، وقد تقرر في الدين الحنيف أن التعاون بين المسلمين لا بد واجب. فهاتان مقدمتان بديهيتان

الأولى وجود الخلاف واستمراره.

والثانية وجوب التعاون والتكامل بين المسلمين.

فإذا قلنا بأن التعاون لا يمكن حصوله إلا بالاتفاق التام بين سائر المسلمين على كل شيء في العقائد أصليها وفرعيها، فهذا يستلزم استحالة وجود التعاون. وهو باطل.

وإذا قلنا بما أن التعاون واجب، وهو مشروط بالاتفاق، فيجب علينا تناسي الخلاف ومحاولة التغافل عنه. فهذا لا ريب غير صحيح، لأن فيه إهمال الموجود وإغفال ما لا يمكن التغافل عنه، فكل فرقة تزعم أنها المصيبة المحقة، فكيف يطلب منها التغافل عما تدعي أنها أصابت فيه.

فهذه هي الإشكالية في ضمن هذا الوجه من النظر.

والتحقيق المبني على الأصول الكلامية ، يقتضي من الجميع بنوع من النظر أن يجمع بين هاتين المقدمتين، فواحدة منهما مأخوذة من الحس والمشاهدة ، وهي من وسائل المعرفة، والأخرى مأخوذة من القطعيات الدينية. فإهمال واحدة منهما أو التغافل عنها، لا يصح.

فيترتب على ذلك وجوب العمل على التعاون في حال ملاحظة الخلاف، ووجوب بناء كلام عملي للتعاون يلاحظ فيه هذان الوجهان والحقيقتان. فيجب بناء التعاون مع ملاحظة الخلاف.

وفي هذه الحال، فإما أن يبنى على المختلف فيه، أو على المتفق عليه، ولا شك أن البناء لا يكون إلا على المتفق فيه.

ويجب أن ينبني ينبني العمل الواجب تحصيله على القدر الذي حصل عليه الاتفاق بين المسلمين مع عدم إهمال خصوصية واحدة من الفرق الإسلامية واستمرار الجدال بينها بالتي هي أحس.

وقد ينظر البعض إلى وجود الخلافات بين المسلمين على أنها خطر داهم، ويجب نفي الخلافات مطلقا، وأنها ضرر يؤدي بالأمة إلى مهلكتها. ولكننا نقول من جهة أخرى، إن وجود الخلافات المعتبرة بين الفرق الكبرى، مع كونه من جهة يترتب عليه بعض المفاسد إلا إنه يترتب عليه كثير من المصالح الأخرى، أهما دوام النظر وإدامة التحقيق والبحث في تلك الأصول. ويترتب عليها وجود التنافس في الرد على الخصوم الخارجين على الدين كل من وجهة نظر، فكما قال الإمام الغزالي عندما ناقش الفلاسفة، إنني لا أخاطبكم بلسان الأشاعرة فقط، بل بلسان سائر الفرق الإسلامية، فكلها تجتمع عليكم.

والله الموفق

وليس لنا إلى غير الله تعالى حاجة ولا مذهب


 

ملاحظات


[1]  الرسالة الأولى، في كتاب تاريخ نجد، للشيخ حسين بن غنام، تحقيق د. ناصر الدين الأسد. ص222

[2]   من تاريخ نجد، المرجع السابق، ص228 .

[3]  من تاريخ نجد، للشيخ حسين بن غنام، تحقيق د. ناصر الدين الأسد. ص233

[4]  فليرجع إلى كتب ورسائل الإمام العلامة الكوثري، فهي تكشق بوضوح عن حقيقة عقيدة ابن تيمية، ولينظر كتابنا (الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية)، وكتاب (نقض العقيدة التدمرية)، ففيهما بحث مفصل بالأدلة والشواهد على ذلك.

[5]   محمد رشيد رضا، المنا والأزهر، ص242.

[6] المنار والأزهر، لمحمد رشيد رضا، ص266

[7]  المنار والأزهر، ص30



Share
* الاسم:
* البرید الکترونی:
* نص الرأی :
* رقم السری:
  

أحدث العناوین